خلق الله عز وجل الخَلْقَ لعبادته وتوحيده، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، قال ابن كثير: "أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم"، وقال القرطبي: "والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون". وعن عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يومٍ في خُطبته: (ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا، كل مالٍ نحلتُه عبداً حلال، وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أنْ يُشركوا بي ما لم أُنزِّلْ به سُلطانا) رواه مسلم.
وبداية الشرك بالله عز وجل أتت من الغلو في الصالحين وإنزالهم فوق منزلتهم، والاعتقاد بأنهم يعلمون الغيب، وأن الخير والنفع بيدهم، ويأتي عن طريقهم، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(نوح:23): "هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِخَ العلم عُبِدَت.. وقال ابن جرير: كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم".
والمغالاة في حُبِّ الأنبياء والصالحين له مظاهر مختلفة، منها دعاؤهم والطلب منهم، والاستعانة والاستغاثة بهم، ومنها: التبرك بقبورهم واتخاذها مساجد. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حماية وصيانة للتوحيد، سدَّ وأغلق كل ذريعة وباب إلى الوقوع في الشرك بالله، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حذَّر تحذيراً شديداً، ونهى نهيا واضحاً، عن البناء على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد. والأحاديث النبوية الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها:
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه مسلم.
ـ عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدخِلوا عليَّ أصحابي، فدخلوا عليه وهو مُتقنِّعٌ ببُردةِ مُعافريٍّ، (فكشف القناعَ) فقال:لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارَى اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد) رواه أحمد وحسنه الألباني.
ـ عن عبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهما: لَمَّا نزَل برسولِ الله صلى الله عليه وسلم (المرض الذي مات فيه)، طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً علَى وجْهِه، فإذا اغْتَمَّ كَشَفَها عن وجْهِه، فقال: وهو كذلك: (لَعْنَةُ اللَّه على اليهود والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَساجِد، (قالت عائشة) يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وكأنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أنه مُرْتَحَل (ميت) من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم"، وقال ابن بطال: "قال المهلب: هذا النهي من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبرَه الجهالُ كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها".
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل (لعن) الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه مسلم. قال المناوي: "(قاتل الله اليهود) أي أبعدهم عن رحمته لأنهم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) أي اتخذوها جهة قبلتهم مع اعتقادهم الباطل وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها، وهذا بيَّن به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم، وخص هنا اليهود لابتدائهم هذا الاتخاذ فهم أظلم، وضم إليهم في رواية للبخاري النصارى".
- عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ أُمَّ حَبِيبَة وأُمَّ سَلمَة ذكرتا لِرَسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأيْنها بالحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أُولَئك، إذا كان فِيهِمُ الرَّجُل الصَّالح فمات، بَنوْا على قبْرِه مَسْجدا، وصَوَّرُوا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شِرَارُ الخَلْقِ عِنْد الله يوم القيامة) رواه مسلم. قال القاضي عياض: "وتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ قبره مسجداً، لما خشيه من تفاقم الأمر وخروجه عن حدِّ المبرَّة إلى المُنكر، وقطعاً للذريعة، وقد نبه عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: (لا تتخذوا قبري وثناً يعبد)، ولأن هذا كان أصل عبادة الأصنام، فيما يذكر، كانوا قديماً إذا مات فيهم نبي أو رجل صالح صوروا صورته وبنوا عليه مسجداً ليأنسوا برؤية صورته، ويتعظوا لمصيره، ويعبدوا الله عنده، فمضت على ذلك أزمانٌ، وجاء بعدهم خلْفٌ رأوا أفعالهم وعباداتهم عند تلك الصور ولم يفهموا أغراضهم، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم، وألقى إليهم أنهم كانوا يعبدونها فعبدوها، وقد نبه عليه الصلاة والسلام في الحديث على بعض هذا، ويدل على صحة هذا المعنى قوله في الحديث الآخر: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)".
ـ عن جُنْدب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: (إنِّي أبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ألَا وإنَّ مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم. قال الطيبي: "المعنى: أنبهكم علي تلك الفعلة الشنيعة تنبيهاً، لئلا تصنعوا صنيعهم، وكما كرر التنبيه كرر النهي أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (إني أنهاكم) بعد قوله: (لا تتخذوا) ولا تظنوا أن هذا النهي مجاز، بل هو علي حقيقته، وفائدة هذه المبالغة والتكرير غاية التحذير".
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تَجْعَلْ قبري وثنًا يُعْبَد، اشتد غضبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد) رواه مالك في الموطأ، وابن سعد في الطبقات، وصححه الألباني.قال ابن رجب: "قال ابن عبد البر: "الوثن: الصنم. يقول: لا تجعل قبري صنماً يُصلى إليه، ويُسْجَد نحوه، ويُعْبَد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبلهم الذين صلوا في قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وانه مما لا يرضاه، خشية عليهم من امتثال طرقهم". وقال القرطبي: "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره".
وقال ابن القيم في قصيدته المشهورة "النونية":
ولقد نها أن نصير قبره عيداً حذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي قدْ ضمه وثناً من الأوثان
لقد كثرت المساجد التي بُنيت على قبور، وكثر تردد الناس عليها للصلاة فيها والدعاء عندها، وكل هذا حرام لا يجوز في ديننا، ولأنه ذريعة إلى الوقوع في الشرك، وقد اتفق العلماء ـ قديماً وحديثاً ـ على ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة من تحريم اتخاذ القبور مساجد، وذكروا أن من الحكمة في ذلك هو عدم الغلو في صاحب القبر، وهذا الغلو قد يفضي بالناس إلى عبادة صاحب القبر ودعائه، والاستغاثة به والنذر له، وطلب النفع ودفع الضر منه، وكل ذلك شرك بالله عز وجل، ولِمَا في اتخاذ القبور مساجد من التشبه باليهود والنصارى، وما فيه كذلك من مخالفة صريحة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، والمسلم يحذر كل الحذر من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم طاعة أمره، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(النساء:115)، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور:63). فمَن ترَك اتخاذ القبور مساجد، فقد أصاب السُنة، وأطاع النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف اليهود والنصارى، ومن اتخذ القبور مساجد، فقد ابتعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف أمره وعصاه، وشابه اليهود والنصارى. وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}(النساء:80)، قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَىَ، قالوا: يا رسول الله ومن يأبَى؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقدْ أبَى) رواه البخاري.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
الشرك والكفر