درج في الآونة الأخيرة مصطلح الرعاية الوالدية الذي تناولته كثير من المؤتمرات البحثية المعنية بالأسرة بمزيد اهتمام، فما المقصود بالرعاية الوالدية؟ وما أثرها على الفرد والمجتمع؟
إن مقصد الشارع من الزواج هو الإعفاف والسكن والتكاثر تحقيقا للخلافة وإعمارا للأرض، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خليفة) [البقرة:30]، وقال -عز وجل-: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود: 61]، فنحن خلفاء الله في الأرض، استخلفنا فيها ما دمنا ندين له بالعبودية، مع ضرورة الاهتمام بجودة هذا التكاثر، وهذه الجودة هي نوع من أنواع عمارة الأرض متمثلة في الرعاية الوالدية للأبناء واحتوائهم من جميع الجوانب (دينيا، نفسيا، علميا، تربويا).
الرعاية الوالدية "تعني كل سلوك يصدر عن الأب أو الأم أو كليهما، ويؤثر على الأطفال وعلى نمو شخصيتهم، سواء قصد بهذا السلوك التوجيه والتربية أم لا" ، فأي أسلوب يصدر من الوالدين سواء كان بقصد التربية أو لا، له تأثير في تكوين ونمو شخصية الطفل، وله أثره وتأثيره البالغ في صحته النفسية وما بعدها، ومنها وبها يتم تخريج الأبناء إلى الأسرة الكبيرة .. إلى المجتمع، فإن كانت الرعاية الوالدية كما يجب انعكس ذلك على الأبناء ثم على المجتمع والعكس صحيح.
وتبعات سوء المعاملة الوالدية وأثره خطير جدا للغاية على الفرد والمجتمع معا، لما لها من تأثير كبير في تكوين شخصية الطفل منذ بداية نموها وتطورها، والتي لها انعكاساتها وتبعاتها فيما تبقى من مراحله العمرية، وآثارها على صحته النفسية وفاعليته الشخصية والمجتمعية، ولعلاقتها أيضا بالذكاء والتحصيل الدراسي، وهو ما توصلت إليه الباحثة (نجاح الدويك) في دراستها الموسومة بـ (أساليب المعاملة الوالدية وعلاقته بالذكاء والتحصيل الدراسي لدى الأطفال في مرحلة الطفولة المتأخرة) )، حيث توصلت الدراسة إلى أن الأطفال الذين تعرضوا لإساءة أو إهمال والدي له تأثير في الذكاء الاجتماعي والذكاء الانفعالي والتحصيل الدراسي.
تتأثر مناعة الطفل وحصانته النفسية والوجدانية والمزاجية والعاطفية سلبا أو إيجابا حسب الرعاية الوالدية التي يمارسها والداه تجاهه، وقد بينت العديد من الدراسات خطورة إساءة المعاملة الوالدية للطفل، فمن آثارها السلبية على المدى البعيد إيصالها إلى العنف والانطواء والقلق والاكتئاب والخوف، وضعف أو انعدام تقديره لذاته وشعوره بالاستقلالية والاحترام، وقد أوجدت الباحثة القطرية (أمل المسلماني) في دراستها الموسومة بـ (فاعلية برنامج إرشادي لتعديل سلوكيات الإساءة الوالدية نحو الأبناء وأثره في تحسين تقدير الذات لديهم) برنامجا يحد من الإساءة الوالدية، وبدوره ساهم البرنامج في الحد من الإساءة وتحسين تقدير الذات لدى الطفل، وهذا يدل على مدى تأثير المعاملة والرعاية الوالدية في الطفل، لذلك أولت مزيد اهتمام في البحث والتطبيق والدراسة.
تقدير الذات والثقة بالنفس من الأمور المهمة في تكوين شخصية الطفل والتي يجب على الوالدين الاهتمام بها والتركيز عليها في معاملتهم وأساليبهم التربوية المتبعة مع الطفل، والمقصود بتقدير الذات الأفكار الإيجابية التي يؤمن بها الشخص عن نفسه، وشعوره الداخلي بالكفاءة والجدارة، وقدرته على الإنجاز والنجاح، مع شعور بالرضا والطمأنينة.
ومن الأساليب والرعاية الوالدية الإيجابية التي تشعر الطفل بذاته وتقديرها واحترامها، والشعور بالثقة بنفسه، وأنه يملك الكفاءة اللازمة لإنجاز المهمات الموكلة إليه هو استخدام لغة تقدير الذات من خلال المواقف اليومية، وهذه اللغة هي ما تعكس للطفل صورته عن نفسه، منها التقييم الإيجابي لسلوكه والكلمات، ونبرة الصوت، والإطراء.
فالتقييم يكون لسلوك الطفل بعيدا عن شخصيته، من خلال وصف سلوكه، ومثاله (لقد تأخرت في أداء الواجب)، ثم توضيح ردة الفعل تجاه سلوكه، ومثاله (يزعجني أن أجدك تؤخر أداء واجبك)، وبعدها يأتي الاهتمام بمشاعر الطفل وعدم الاستهانة بها، ومثاله: (أتفهم مدى حبك للعب)، وبعد كل ما سبق يأتي التعبير بكل وضوح عما هو متوقع منه ليدرك الطفل ما هو مطلوب منه ولتصله الرسالة المقصودة دون المساس بشخصيته، وأن المقصود هو السلوك، مثاله: (أريدك أن تنجز واجبك خلال عشر دقائق من الآن)، وبهذا تصبح العبارة الكاملة: (لقد تأخرت عن أداء الواجب، يزعجني أن أجدك تؤخر أداء واجبك، أتفهم مدى حبك للعب، أريدك أن تنجز واجبك خلال عشر دقائق من الآن)، هكذا تكون العبارة دقيقة ومحددة وتدل على احترام الطفل والاهتمام بمشاعره، وتبين سبب رغبة الوالدين في تغيير السلوك، وتحدد ما هو متوقع منه.
ومن أساليب الرعاية الوالدية الثناء على سلوك الطفل الإيجابي عندما يكون سلوكه صحيحا، حيث يغلب على الآباء معاقبة أبنائهم على سلوكهم السيء أكثر من الثناء على سلوكهم الإيجابي. الإطراء والثناء على سلوك الطفل الإيجابي ووصف سلوكه الذي قام به بالضبط مهم جدا، لكن دون مبالغة فيه؛ لأن المبالغة في الثناء تفقد التأثير المطلوب في تعزيز السلوك الإيجابي لدى الطفل، كما أن إهمال الثناء واستحسان وتأييد سلوك الطفل الإيجابي يصيبه بالإحباط ويزعزع ثقته بنفسه، فالتوازن والاعتدال مطلوب في الرعاية الوالدية وغيرها.
كما أن تدريب الطفل على الاعتماد على نفسه وتحمل المسؤولية يشعره بتقدير ذاته والثقة بما لديه من قدرات وإمكانيات تجعل منه شخصا مستقلا بذاته، لهذا وجب تدريب الطفل على الاعتماد على نفسه تدريجيا وتزامنا مع نضجه الجسماني والعقلي، فمثلا الطفل يعتمد في سنته الأولى على والديه في الأكل، لكن بعد دخوله في السنة الثانية فعلى الوالدين تدريبه وبشكل تدريجي على أن يأكل بمفرده وإن كان غير متمكنا منه تماما، بل إن بعض الأطفال من يبادر في رغبته بالأكل لوحده متشبها إما بإخوته أو بوالديه، فهذا الأسلوب من أساليب الرعاية الوالدية الإيجابية يعزز لدى الطفل اعتزازه واعتداده بنفسه ويجعل منه شخصا مستقلا بذاته.
فاستخدام الأساليب التربوية الإيجابية التي فيها احترام وتكليف الطفل بما يستطيعه والثقة في قدرته على ذلك تعزز في نفسه الثقة وتشعره بتحمل المسؤولية، بخلاف الطفل الذي لا يُمكّنه والداه من الاعتماد على نفسه إما خوفا عليه من أن يتأذى، أو لزيادة الحماية والحرص، ينشؤون مهزوزي الثقة بأنفسهم، يبحثون عمن يعتمدون عليه لعدم ثقتهم بأنفسهم، فقيام الوالدين بمهمات يستطيع الطفل أن ينجزها يمنع إحساسه وشعوره بالجدارة والكفاءة والثقة بنفسه.
أما الأساليب التربوية السلبية للطفل التي فيها انتقاد وتوبيخ شديد وقاسي دون توجيه واضح لخطأ الطفل تنشئ ما يسمى بـ (الناقد المرضي) لدى الطفل، ويلازمه طوال حياته، ويقصد به ذلك الصوت الداخلي الصادر من عقولنا الذي يقول لنا: (أنت فاشل، أنت غبي، أنت قبيح، أنت جبان)، فذلك الصوت هو ملازم لمن تقديره لذاته ضعيف، فهو يهاجمه في كل مناسبة ليذكره بمدى ضعفه وفشله وعدم كفاءته، مصدرا عليه أحكاما قاسية، ويلومه ويجلده معنويا على كل خطأ يرتكبه.
لذا وجب على الوالدين مراقبة كل فعل وكل كلمة وكل نبرة وكل سلوك يقومون به تجاه أبنائهم، وعليهم تعلم فن الرعاية الوالدية، من رعاية إيجابية صحية، ليخرجوا من مدرستهم الأسرية أبناء أسوياء وأصحاء نفسيا، مشبعين بتقدير ذواتهم واحترامها، والذي بدوره سينعكس على تصرفهم وتعاملهم مع غيرهم عند تخرجهم وانخراطهم في المجتمع.
- الكاتب:
اسلام ويب - التصنيف:
معاً .. نربي ونعلم