نُشر خبر علمي عن فائدة أكل قطعة من الشوكولاتة يوميا لتسريع تخفيف الوزن، وتحسين مستوى الكوليسترول، ولتحسين صحة الجسم عموما. بدأ الخبر في ألمانيا، حيث نُشرت ورقة علمية على أحد المواقع البحثية، ثم توسعت رقعة الخبر عالميا على الوسائط الإخبارية التقليدية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، صدر الخبر في مارس/آذار 2015، وذهب ضحية زيفه كل وسائل الإعلام بالإضافة إلى عامة الناس.
لقد كانت هناك دراسة حقيقية على الشوكولاته، حيث أجريت تجارب على أشخاص بطريقة علمية، واستخلصت معلومات صحيحة، ولكنها عولجت بطريقة غير علمية، وزيفت النتائج عن طريق ما يطلق عليه اصطلاحا "بي-هاكنغ" (p-Hacking)، أي تعديل الأرقام الاحتمالية لتتناسب مع الفرضية التي أراد الباحث أن تنجح، بعد ذلك نُشرت ورقة علمية بالنتائج الزائفة، وقُبلت خلال 24 ساعة في مجلات علمية مختلفة من غير تحكيم (كما هي العادة في تحكيم الأوراق حينما تقدم للمجلات المرموقة).
بعد نشر الورقة كتب الباحثون الخبر الصحفي بأسلوب مثير، وذلك بإضافة بعض الاقتباسات الجذابة، ثم أعدوا المحتوى في لقطة فيديو، ومع ذلك أبقيت المعلومات دقيقة ومتوافقة مع النشر البحثي. كان الهدف هو جذب أنظار الصحفيين لخداعهم، لقد نجح الباحثون في ذلك بجدارة، وبينوا ضعف الصحافة في تمييز العلم الحقيقي من العلم الزائف.
قرأ الناس في أرجاء العالم الخبر وصدقوه، وأضاف بعضهم الشوكولاته لحميتهم، ظنا منهم أن ذلك سيساعدهم في تقليص أوزانهم، وبما أن الخبر انتشر بحماس -كما يحصل في العادة في مثل هذه الأخبار الملفتة للنظر، وبما أن نفي الخبر لا ينتشر بنفس الحماس فستبقى تلك الحمية الزائفة في أذهان الكثير من الناس لفترة طويلة.
نشر الأخبار العلمية
هناك جانبان لمشكلة انتشار الأخبار العلمية الخاطئة، الجانب الأول هو أخطاء بعض العلماء أو تزيفهم المتعمد من أجل النشر العلمي، والجانب الثاني هو سوء فهم الصحافة للعلم وتغييرها للأخبار لجذب شريحة أكبر من الناس. في هذه المقالة سأركز على جانب الصحافة، وفي مقالة أخرى سأعود للتركيز على جانب العلماء.
تُنشر الأخبار العلمية يوميا في مواقع التواصل الاجتماعي، من مواقع علمية عامة، أو من وكالات الأخبار، وعادة ما تحصل الوكالات على هذه الأخبار من مؤتمرات صحفية أو من وسائط إخبارية لها علاقة مباشرة بمصدر الخبر، كأن ينشأ الخبر من جامعة معينة، ويكون قسم الوسائط المتعددة هو المسؤول عن التصريح لوكالات الأخبار، أو قد يأتي الخبر من مواقع علمية شهيرة ومرموقة (مثل نيتشر أو ساينس) ابتداء، ثم بعد ذلك يتخذ مساره الطبيعي في المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي. وفي أثناء تلك الحركة تتشوه المعلومات العلمية إما ابتداء من مصدر الخبر الأول أو أثناء انتقاله من وسيط لآخر، فتذوب الحقيقة وتضمحل، لتحل محلها عناوين ومواضيع غايتها توليد أرقام كبيرة للمواقع.
أتذكر أنني اشتركت في دورة مصغرة في كيفية التعامل مع الصحافة لنشر بحث علمي، كان ذلك أثناء دراستي للحصول على الدكتوراة في جامعة سواثهامتون، تعلمت كيف أخاطب مسؤولي التحرير للخروج ببيان صحفي إذا كان لدي بحث يستحق نشره إعلاميا، ركزت الدورة على التقنية وطريقة الإلقاء وأسلوب التعبير، ولكنها لم تتطرق لدقة ومصداقية نقل المعلومة للمحررين، ولا على متابعة الخبر بعد ذلك للتحقق من عدم تشوهه، المشكلة ليست في تقنية وأسلوب نقل المعلومة من الباحث أو العالم إلى وكالات الأخبار، بل هي في صحة نقل المعلومات.
وبما أن وكالات الأخبار كلها تعتمد على البيان الصحفي الأول، فعلى المصدر الرئيسي تحمل الخط الأول من المسؤولية في صحة المعلومة، وذلك يشتمل على العلماء الذين صادقوا على نشرها، فعليهم مسؤولية التحقق من دقة شرح المعلومة في البيان قبل المصادقة عليها.
عناوين براقة
ثم بعد انتشار الخبر الأول الذي قد يكون دقيقا أو مشوها، تقوم الصحافة بإعادة صياغته بأسلوب المبالغة، فتتحول الدراسة من المجال الضيق إلى المجال الواسع، فمثلا تقام دراسة على الفئران تبين تأثير مادة كيميائية ما على مرض أصيبوا به، لينتشر الخبر بعد ذلك على أن هذه المادة الكيميائية يمكنها معالجة المرض في الإنسان، وشتان ما بين تركيبة الإنسان والفأر البيولوجية. أو تخلص دراسة إلى أن سماع الموسيقى يزيد من ذكاء المستمع ربع ساعة وبتأثير 2% على سبيل المثال، فينتشر الخبر بأن سماع الموسيقى يزيد من ذكاء المستمع على الإطلاق من غير أي تحديد زمني.
وبغض النظر عن تعمد الصحفيين لنشر مادة إخبارية بعناوين براقة وبمحتوى ساحر لجذب القراء، فإنهم وإن لم يفعلوا ذلك تعمدًا ونشروا الخبر كما هو فهم لا يمتلكون الوقت الكافي لمراجعته والتأكد من صحته من خلال مراسلة العلماء أنفسهم، وليس لديهم التدريب العلمي الكافي لفهم العلم من خلال قراءة الأوراق العلمية، فهي في العادة تُكتب بلغة يصعب على غير المختص تفكيكها.
عوضا عن ذلك كله، فإن البحث العلمي الجديد والمثير يتم تمحيصه من قبل علماء آخرين للتأكد من صحته في العادة، فإن اكتُشف الخطأ وصُحّح فإن الصحافة في الغالب لا تكترث للتصحيح، خصوصا بعد أن فقدت المعلومة بريقها، وقد حدث هذا الأمر في أخبار كثيرة، منها اكتشاف التضخم الكوني السريع الذي حدث بعد الانفجار العظيم، فبعد أن انتشر الخبر بزخم هائل اكتشف العلماء خطأ في التجربة العلمية، ولكننا لم نكد نسمع خبر تفنيد النتيجة المبهرة الأولى.
تتبع صحة الخبر ليس بالأمر السهل، ويحتاج لمختص يفهم كيف يحلل الأخبار بالشكل الصحيح، ويعرف كيف يبحث في الأوراق العلمية، وإن كان ذلك لا يمنعه من الوقوع في الخطأ، ولكنه يخفف الأخطاء بنسبة مناسبة.
لابد للصحافة أن تولي الأخبار العلمية اهتماما أكبر بالتحري عن مصداقيتها، إما عن طريق استشارة العلماء الذين صدر منهم الخبر، أو من خلال تعيين اختصاصيين في الأخبار العلمية، وبالإضافة إلى ذلك يجب عليهم تتبع خيوط الخبر إلى النهاية، لمعرفة التغيرات التي تجري عليه، وإعادة نشر الخبر من جديد حتى وإن فقد بريقه، وهذا لا يعفيالقراء من المسؤولية، فهم يتحملون المسؤولية نفسها في تتبع صحة الأخبار، والحذر الشديد في قراءتها.