قد لا يعلم الكثيرون -إن لم يكن الأكثرون- أن بالقاهرة القديمة دربًا من دروبها الضيقة المهملة اسمه "درب الخضيري" في "باب التبانين" -أي: تجار "التبن" الذي تعيش عليه الحيوانات- وأن هذا الدرب من دروب القاهرة القديمة قد تألقت به في يوم من الأيام واحدة من أعظم منارات الفكر بالعالم "الإسلامي"، يوم لم يكن للفكر منارات خارج العالم الإسلامي.
فلقد كان الخليفة العبيدي الملقب بـ"الحاكم بأمر الله" (386-411هـ/ 996-1020م) صاحب نظر في الحكمة والفلسفة, وواحدًا من عشاق الفَلَك والنحو، ولم تكن الدراسة بـ"الجامع الأزهر" -في رأى الحاكم بأمر الله- تُحقق لمجتمعه التبحر في العلوم العقلية على النحو الذي يريد, ولذلك أنشا بدر الخضيري -في جمادى الآخرة سنة 395هـ/ مارس سنة 1555م) "دار الحكمة". تلك التي صارت أكاديمية للعلم والفكر, وخاصة "العلوم العقلية" -التي كان المسلمون الأوائل يسمونها "العلوم الحقيقية"- وبلغت "دار الحكمة" في هذا الميدان حدًّا فاقت فيه النظائر والأشباه.
ولقد جمع "الحاكم بأمر الله" لهذه المؤسسة الفكرية خيرة علماء "الدولة العبيدية" في عصره -شيعة كانوا أم سنة- إذ على الرغم من أن التشيع الإسماعيلي الباطني كان مذهب الدولة الذي تتعصب له؛ إلا أن فقه السنة -الذي كان فقه جمهور الأمة- كان يدَرَّس في "دار الحكمة"، بل ويشهد "الحاكم" المناظرات بين شيوخه السنيين وبين مراجع مذهبه الشيعي!
وفى "دار الحكمة" قامت أقسام وفروع للقرآن الكريم وعلومه, وللعلوم الدينية القائمة على الوحي والشرع، والفلك، والطب، والنحو, وعلوم اللغة المختلفة، ولم يكن الرجال وحدهم هم طلاب العلم فيها, فلقد ضمت قسمًا لتعليم النساء.
وضمت دار الحكمة -ضمن ما ضمت- واحدة من أعظم المكتبات التى شهدتها القاهرة فى ذلك التاريخ، جمع فيها "الحاكم بأمر الله" ما حوته قصور الخلفاء ودور الأمراء والكبراء من كتب مخطوطة في مختلف العلوم والفنون, وجعل الانتفاع بها -قراءةً ونسخًا- مباحًا لعامة القراء والباحثين، حتى لَيَصفها المؤرخ المقريزي (766-845هـ/ 1365-1441م) فيقول: إنه قد اجتمع فيها من الكتب ما لم يُرَ مثلُه لأحد قط من الملوك, وأبيحت هذه الكتب كلها لسائر الناس على اختلاف طبقاتهم.
ولقد أوقف "الحاكم بأمر الله" على "دار الحكمة" أوقافًا كثيرة من ممتلكاته, ومن ريع هذه الأوقاف رُتِّبت المُرتَّبات للعلماء الذين يُلقُون العلم بها, وللموظفين والخدم الذين يديرونها, بل لقد كانت الأوراق والأقلام والأحبار وسائر ألوان الخدمة تقدم للمطالعين والناسخين والقراء في "دار الحكمة" بالمجان!
ولقد ظلت "دار الحكمة" هذه تؤدي دورها الفكري في خدمة العلوم العقلية والشرعية, حتى سيطر الجند على مقدرات "الدولة العبيدية" عقب المجاعة الكبرى التي حدثت في عهد الخليفة "المستنصر" (420-487هـ/ 1029م-1094م) -التي عُرفت في التاريخ باسم "الشدة المستنصرية"- فأغلقها القائد الأفضل بدر الجمالي (507-590هـ/ 1014-1094م). وعندما خفَّت سيطرة الجند على الدولة, عادت "دار الحكمة" تؤدى دورها من جديد, فلما زالت "الدولة العبيدية", وحكم الجند الأيوبيون مصر, أُلغيت "دار الحكمة" مع المؤسسات الفكرية التي أقامها "الشيعة الإسماعيليون" في مصر السنية لتحل محلها المدارس السنية, التي أقامها صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ/ 1137-1193م)، والتي كانت الواحدة منها تُضاهي مدينة كاملة أو حيًّا من أحياء مدينة، وتتكون من أربعة أقسام للمذاهب الفقهية السنية الأربعة مع مسجد جامع, ومساكن للعلماء والطلاب، ومرافق لخدمة العلماء والطلاب والزائرين.
لقد طُويت صفحة "دار الحكمة" التي قامت بدرب الخضيري بباب التبانين، لكن دور العلم والحكمة في مصر الإسلامية قد ظلت منارات عالية, تشع منها أنوار المعارف والعلوم على مختلف أرجاء عالم الإسلام.
- الكاتب:
د. محمد عمارة - التصنيف:
تاريخ و حضارة