والمستقرئ لتاريخ الأمم السابقة على الإسلام، لن يجد أمة من الأمم قد حرصت على الوصول إلى الحق، والمحافظة عليه كما حرص المسلمون على علومهم التي كان لها اتصال من قريب أو بعيد بدينهم؛ وإن حرصهم على دينهم قد حملهم على إيجاد كثير من العلوم التي لا توجد عند غيرهم، مثل علم أصول الفقه لاستنباط الأحكام الفقهية، وعلم الرجال لدراسة الحديث النبوي الشريف، وعلم النحو لمعرفة ضبط أواخر الكلمات العربية، محافظة على قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف قراءة صحيحة، على حسب قواعد اللغة العربية التي هي لغته، ومن بين هذه العلوم "علم آداب البحث والمناظرة" الذي لا بد فيه لضبط جدل الخصوم حتى لا يخرج بهم إلى غير الصواب، أو يبعدهم عن طريق الحق والرشاد، والحق والصواب هما غاية كل مسلم، وطُلبة كل مؤمن، وضالة كل موقن.
وقد كان العلماء في الصدر الأول، غير محتاجين إلى هذه النُظم، لما وهبهم الله من سلامة الفطرة، وصفاء الذهن، وكانت أساليب حوارهم ومناظراتهم تجري على وفق هذه القواعد؛ من غير أن تكون علما مدونا، فلما طال العهد، وقصرت القرائح، احتاج الناس إلى استنباط قواعد يلتزمها المتباحثان.
وقد كان هذا الفن أبحاثا متفرقة، غير منسقة وغير كاملة، وكانت موزعة في كثير من العلوم التي يدخل فيها الجدل، كالمنطق، والفلسفة، وعلم الكلم، وعلم أصول الفقه، وعلم الفقه واختلاف المذاهب فيه، وغير ذلك.
وكانت جملة ما فيه من آداب وضوابط وقواعد مُلتزمة فعلا لدى كثير من كبار علماء المسلمين، نلاحظ ذلك في مثل مناظرات الإمام الشافعي للفقهاء في عصره، ومناظرات الإمام أبي حنيفة، ومناظرات سائر الأئمة الفقهاء وغيرهم.
وكثر الجدال بين علماء الأمة والفلاسفة والملاحدة، وكثر الجدال أيضا بين العماء المسلمين فيما بينهم ، من فقهاء وأصوليين ، واقتضى الأمر ضبط المحاورة بين المناظرين، ووضع قواعد وآداب لها، لتكون ثمرة الحوار والمناظرة الوصول إلى الحق واقناع الفريق الآخر به؛ ولتكون المناظرة بعيدة عن الجنوح المذموم الذي تندفع إليه النفوس، بدافع الهوى والتعصب للرأي أو المذهب، على حساب الحق، ودعت الحاجة إلى تمييز القواعد والآداب ووضعها في علم مستقل بها يُدرس ويُتبع.
ولكن لم يُعرف بالضبط، من أول من ألف في هذا العلم؛ ولا في أي عصر من عصور المسلمين دون هذا العلم، بل لم يُعرف أول من قعد قواعد هذا العلم، ومن رتب قوانينه، وكل ما نعرفه أن صاحب كتاب " كشف الظنون" حاجي خليفة، عند كلامه عن المؤلفات في فن المناظرة والجدل، قال: " وفيه مؤلفات ، أكثرها مختصرات وشروح للمتأخرين، منها ... آداب الفاضل شمس الدين محمد بن أشرف الحسيني السمرقندي، الحكيم المحقق صاحب الصحائف والقسطاس، المتوفى في حدود سنة 600 هجرية، وهي أشهر كتب الفن".
فهذا أول ما وصل إليه علمنا من المؤلفات في هذا الفن، ولا شك أن هذا العلم ألف فيه قبل هذا التاريخ الذي ذكره صاحب "كشف الظنون" لأن المناظرة والجدل ظهرا في القرون الأولى عند المسلمين، وإن كان بعض المؤرخين يميل إلى أن هذا العلم عرف عند المتقدمين ،لكن استقلاله بمؤلفات خاصة ،والتخصص المنفرد فيه، لم يكن قبل سنة 600 هجرية.
وقد ذكروا أن أول من صنف كتابا مستقلا فيه أو من أوائل من فعل ذلك : ركن الدين العميدي الحنفي ، حيث قيل:" إن أول من ميز هذه القواعد وجعلها علما مستقلا ، وصنف فيه على الكيفية التي نتناقلها اليوم هو ( ركن الدين العميدي الحنفي)، صاحب كتاب "الإرشاد" المتوفى ببخارى سنة 615هـ ، ثم تابعه معاصروه بعد ذلك في التأليف والزيادة على ما وضعه، كالإمام الرازي، وبعده النسفي وبعد ذلك الإمام محمد المرعشي، والسيد الجرجاني وغيرهم، حتى استوى هذا الفن على سوقه وأصبح من مفاخر المسلمين ، ومن العلوم التي سبقوا لها غيرهم.
- الكاتب:
اقتباسات من كتاب\\\" فن المناظرة رئية إسلامية\\\" - التصنيف:
المركز الإعلامي