عاشت المدينة المنورة وقتا عصيباً لِمَا وقع من افتراءٍ بالإفك والبهتان على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك حين استغل المنافقون حادثة وقعت لها في طريق عودتها مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من غزوة بني الْمُصْطَلِق (المريسيع)، حين نزلت من هَوْدجها (مَحْمَل يوضع على ظهر الإبل لركوب النساء) لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج الخاص بها ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه، وواصلوا السير عائدين إلى المدينة المنورة، وحين عادت عائشة رضي الله عنها لم تجد الرَكْب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرَّ بها صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة المنورة.
استغل المنافقون هذا الحادث لعائشة رضي الله عنها، ونسجوا حوله الإشاعات الكاذبة والافتراءات الباطلة، وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فاتُهِمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك (أفظع وأشد أنواع الكذب والافتراء)، وعَصَم اللهُ عزَّ وجَّل أناساً بالتقوى، فأحسنوا الظن وأمسكوا ألسنتهم، ووقع آخرون في الفتنة وخاضوا مع مَنْ خاض، وانقطع الوحي شهراً، عانى النبي صلى الله عليه وسلم خلاله كثيراً، حيث طُعِن في عِرْضِه وأوذي في زوجته، ثم نزل الوحي من الله عز وجل مُبَرِّئاً عائشة رضي الله عنها، وذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (النور: 11-20).
قال ابن كثير: "هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفِرْية، التي غار الله تعالى لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله عز وجل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} أي: جماعة منكم، يعني: ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة، فكان المُقدَّم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وجوَّزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر، حتى نزل القرآن، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها: (أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك) رواه البخاري، فالمُبَرَّأة من فوق سبع سموات هي أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها، ومن ثم فقد اتفقت الأمة على كفر من اتهم عائشة رضي الله عنها بالإفك والسوء بعد نزول آيات براءتها في القرآن الكريم.
موقف أبي بكر مِنْ مِسْطح، وقول الله تعالى: { أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} :
مِسْطَح بن أُثَاثة رضي الله عنه كان ممن وقع وخاض في هذه الفتنة، وزلت قدمه مع المنافقين وتكلم في عائشة رضي الله عنها، ومِسْطح كان من المهاجرين الأوَل، وممن شهد بدرا، وهو وابن خالة عائشة رضي الله عنها، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق عليه لقرابته منه ولفقره، فأقسم أبو بكرٍ ألا ينفق عليه بعد ما وقع منه مع ابنته عائشة رضي الله عنها، وخوضه في الكلام عليها. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فلما أنزلَ اللهُ في براءتي قال أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه وكان يُنفقُ على مِسْطَحٍ بنِ أُثاثةَ لقرابتِه منه وفقره: واللهِ لا أُنفق على مِسْطَحٍ شيئًا أبداً بعْدَ الذي قال لعائشةَ ما قال، فأنزل الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النور:22)، قال أبو بكرٍ: بلى والله، إني أُحبُّ أن يغفرَ اللهُ لي، فرجع إلى النفقة التي كان يُنفق عليه وقال: والله لا أنزعُها منه أبداً) رواه البخاري.
قال الطبري في تفسيره لقول الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النور:22): "وإنما عني بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حلفه بالله لا ينفق على مسطح، فقال جل ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ألا يعطوا ذوي قرابتهم، فيصلوا به أرحامهم، كمسطح، وهو ابن خالة أبي بكر {وَالمَسَاكِينَ} يقول: وذوي خلة الحاجة، وكان مسطح منهم، لأنه كان فقيرا محتاجا {وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ} وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم في جهاد أعداء الله، وكان مسطح منهم، لأنه كان ممن هاجر من مكة إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، {وَلْيَعْفُوا} يقول: وليعفوا عما كان منهم إليهم من جُرْم، وذلك كجُرْمِ مسطح إلى أبي بكر في إشاعته على ابنته عائشة ما أشاع من الإفك، {وَلْيَصْفَحُوا} يقول: وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} يقول: ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضالكم عليهم، فيترك عقوبتكم عليها {وَاللهُ غَفُورٌ} لذنوب من أطاعه واتبع أمره، {رَحِيمٌ} بهم أن يعذبهم مع اتباعهم أمره، وطاعتهم إياه على ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها، وتابوا إليه من فعلها".
موقف أم مِسْطَح :
أحسنت أم مسطح رضي الله عنها الظن بعائشة رضي الله عنها، بل ودعت على ولدها لمشاركته في هذا الإفك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبلْتُ أنا وأم مِسْطح قِبَل بيتي قد فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مِرْطِهَا (كِساء من صوف يؤتزر به), فقالت: تعِسَ مِسْطح (دعاء عليه بالتعاسة), فقلتُ لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه (يا هذه) أَوَ لَمْ تسمعي ما قال؟ قلتُ: وما قال؟ فأخبرتني بخبر أهل الإفك ..) وفي رواية قالت أم مسطح: (والله ما أسبه إلا فيك (بسببك)). وفي قول أم مسطح: "تعس مسطح" فوائد كثيرة، منها: عِظَم حب الصحابيات لعائشة رضي الله عنها ولأمهات المؤمنين وتعظيمهن وتقديمهن على أنفسهن وأولادهن، امتثالاً لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}(الأحزاب: 6)، مما جعل أم مسطح تدعو على ولدها وهي تعلم أن دعاءها قد يستجاب، وذلك لأنه خاض في عرض العفيفة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال العيني: "وفيه: كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه. وفيه: فضيلة أهل بدر والذب (الدفاع) عنهم، كما فعلت عائشة في ذبِّها (دفاعها) عن مسطح".
من فضل الله تعالى ورحمته أن أظهر براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكشف زيف وبطلان هذا الإفك، وبقيت دروس وفوائد هذه الحادثة ـ حادثة الإفك ـ، لتكون عِبْرَةً للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومِن هذه الدروس والفوائد: إمساك اللسان عن الخوض في ما حرم الله من الأعراض وغيرها لما له من آثار خطيرة على الفرد والمجتمع: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ}(النور:15)، وإحسان الظن بالمسلمين الذي يقطع الطريق على الشيطان للوقيعة بين المؤمنين: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}(النور:12)، والمسارعة إلى طاعة الله عز وجل في أوامره وإن كانت مخالفة لما يريده المسلم، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مسطح ومواصلته النفقة عليه رغم ما فعله، امتثالاً لقول الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النور:22)، وقول أبي بكر رضي الله عنه: (والله! إني لَأُحبُّ أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مِسطح النفقةَ التي كان يُنفِق عليه، وقال: لا أنزعُها منه أبداً) رواه مسلم.
ومن الفوائد والدروس والعبر المترتبة على حادثة الإفك، ما ذكره النووي في شرح صحيح مسلم، والعيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" : "براءة عائشة رضي الله تعالى عنها من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن، فلو تشكك فيها إنسان صار كافراً مُرْتَدَّاً بإجماع المسلمين.. وفيه: فضائل لأبي بكر رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ}(النور:22). وفيه: استحباب صلة الأرحام وإن كانوا مسيئين، وفيه: استحباب العفو والصفح عن المسيء، وفيه: استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات. وفيه: استحباب لمن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي بالذي هو خير، فيكفر عن يمينه".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية