التوكل على الله هو الاعتماد عليه، وتفويض الأمور إليه ، قال ابن عباس: "التوكل هو الثقة بالله، وصدق التوكل أن تَثِق في الله وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك". والتوكل على الله من أعظم المنازل والمقامات عند الله تعالى، وهو أمر مطلوب من المسلم في كل حال وزمان، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(المائدة:23)، وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالتوكل، فقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}(النمل:79). ومن توكل على الله تعالى كفاه وهداه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(الطلاق:3).
والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتوكل على الله مع الأخذ بالأسباب وإعداد العُدَّة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته، وقال: أأعْقِلها وأتوكل؟ أو أُطْلِقها وأتوكل؟! فقال صلى الله عليه وسلم: اعقلها (شد ركبة ناقتك مع ذراعها بحبل)، وتوكل) رواه الترمذي وحسنه الألباني. فتقييد لا ينافي التوكل. قال الصنعاني: "فهذه الكلمة الشريفة مرشدة إلى أن التوكل لا يتم إلا باتخاذ الأسباب التي جعلها الله وصلة إلى مسبباتها، لأن ترك السبب ليس من شأن المتوكلين، بل المتوكل من اتخذ السبب ثم توكل، كتوكل الزراع في سقي الأرض وإلقاء البذور، وأما تارك السبب فلا يسمى متوكلا بل متكلاً عاجزاً مُفَرِّطاً". وقال ابن تيمية: "ومما ينبغي أن يُعْلَم: ما قاله طائفة من العلماء، قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع".
والمتأمِّل في أحداث الهجرة النبوية منذ خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ومُروراً بأحداث الطريق والسَّفر حتى الوصول إلى المدينة المنورة، يجد فيها معاني التوكل واليقين، مع الأخذ بالأسباب وإعداد العُدَّة.
الأخذ بالأسباب وإعداد العُدَّة (اعْقِلها) :
الله عز وجل الذي أمرنا بالتوكل عليه، أمرنا أيضاً باتخاذ الأسباب وإعداد العُدَّة، فالأخذ بالأسباب وإعداد العُدة أمر ضروري وواجب شرعي، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}(الأنفال :60)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أراد أن يترك ناقته دون أن يعقلها: (اعقلها وتوكل). وعلى طريق الهجرة النبوية ظهر ذلك الأمر واضحاً جليّاً منذ تفكير النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقد اختار صاحباً له في هجرته وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وبدأت وقائع الهجرة حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت شديد الحر، وهو الوقت الذي لا يخرج فيه أحد، وجاء مُقنَّعَاً قد أخفى وجهه، مُتَكَتِّمَاً الأمر عن الجميع، وكان قد اشترى بعيرين وعلفهما ـ وهما وسيلة السير والهجرة ـ. وخرج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر لاحتمالات المراقبة من العدو. ومع ذلك ـ وزيادة في الحَيْطة ـ اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم طريقاً غير مألوف لقريش، ولم يتجه مباشرة إلى اتجاه المدينة، إنما اختار طريقاً آخر وهو طريق الساحل. وكان قد اتفق مع عبد الله بن أريقط ـ دليل السير ـ ليكون لهما دليلا لمعرفته بمسالك البادية وطرق الصحراء. وقد انتقى واختار النبي صلى الله عليه وسلم شخصيات عاقلة أمينة لتقوم بالمعاونة في الهجرة، مع وضع كل فرد في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه، ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم ليخدع قريش، وعبد الله بن أبي بكر: كاشف تحركات قريش، وأسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين: حاملة الزاد من مكة إلى الغار، وعامر بن فهيرة: الراعي يبدد آثار أقدام السير بأغنامه، كيلا يتتبعها المشركون، فكل هذا كان من باب الأخذ بالأسباب وإعداد العدة من النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته.
التوكل واليقين:
إذا كان الأخذ بالأسباب وإعداد العُدة أمر ضروري وواجب شرعي وهو من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه ينبغي أن يُعْلَم أنه لا يتحتم أن يترتب على إعداد العُدَّة والأخذ بالأسباب دائماً حصول النتيجة المرجوة، وذلك لأن النتيجة تتعلق بأمر الله عز وجل ومشيئته وحكمته، ومن ثم فرغم إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة وتخطيطه الدقيق لها، فقد وقعت حادثتان مشهورتان أثناء الهجرة، كان يمكن أن يترتب عليهما إحباط الخطة والهجرة.
الحادثة الأولى: كانت في وصول المشركين للغار الذي بداخله النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا! فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري.
وأما الحادثة الثانية: كانت حين أدرك سراقة بن مالك ـ الذي كان يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ـ للإمساك بهما أو القضاء عليهما لأخذ مكافأة من قريش، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى أيقن بالهلاك هو وفرسه، فعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانية، ويصف أبو بكر رضي الله عنه ما حدث مع سراقة فيقول: (فارتحلنا بعد ما مالت الشمس وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أُتينا يا رسول الله، فقال:لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها، فقال: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لي، فالله لكما أن أرَّد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفَّى لنا) رواه البخاري، قال أنس: "فكان سراقة أول النهار جاهداً (مبالغاً في البحث والأذى)على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له (حارساً له بسلاحه)".
قال ابن عثيمين: " فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصَرَنا، لأننا في الغار تحته، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ظنُّكَ باثْنَينِ اللهُ ثالثُهُما)، وفي كتاب الله أنه قال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}(التوبة:40)، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: (ما ظنُّكَ باثْنَيْن الله ثالثهما)، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، فقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذية أو غير ذلك؟ والجواب: لا أحد يقدر، لأنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن أعزَّ، ولا معز لمن أذل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران: 26)، وفي هذه القصة: دليل على كمال توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، وأنه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل".
الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة كغيرها من أحداث السيرة النبوية تعطينا القدوة والأسوة، فعلى طريق الهجرة جاءت دروس كثيرة في البذل والتضحية، ومدى حُب أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن التوفيق والنصر من الله، وأن الله عز وجل ينصر من ينصره، ومنها كذلك: التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب.. والمتأمل لحياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم عامة، والهجرة النبوية خاصة، يُدْرِك عِظم توكله صلى الله عليه وسلم على ربه، وقوة يقينه أن الله حافظه وناصر دينه، وهذا التوكل لا ينافي أو يتعارض مع أخذه بالأسباب، لأن التوكل عمل القلب والأسباب عمل البدن، فمع كونه صلوات الله وسلامه عليه أعظم المتوكلين، فقد كان يأخذ بالأسباب، فكان يتزود في أسفاره، ويعدّ السلاح في حروبه، وقد لبس يوم أُحُد درعين مع كونه من التوكل بمحل لم يبلغه أحد من خلق الله تعالى.. وقد شاء الله تعالى أن تكون الهجرة النبوية جامعة للتوكل على الله والأخذ بالأسباب وإعداد العُدَّة: (اعقلها وتوكل).
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من البعثة إلى الهجرة