عندما تشَّقق الحضارة، تتحول إلى ذراتٍ متناثرةٍ متنافرة، شأنها شأن الجدار المتداعي الذي أصابه التآكلُ، فتحولتْ لَبِناتُه إلى لبنات منفصلة، تسقط عقب بعضها لبنةً لبنة.
ويأخذ الانهيار في العملية الحضارية شكلاً غريبًا، وبدلاً من الانسجام الذي كان سمة الحضارة الناهضة، تتنافر أجزاءُ الحضارة الساقطة أو السائرة في طريق السقوط، ويكاد ينطبق على عملية السقوط التاريخي قولُ الله: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 38].
وعجيب كل العجب أمرُ هذا العصر، وليس العجب في هذا العصر كثرة ما بُلِيت به الأمة الإسلامية من هزائمَ أو انتكاسات، وليس العجب كذلك أن الأمةَ أصبحت تطلب دواءها من عدوِّها، وترفض "الصيدلية والطبيب" الحقيقيين، كذلك ليس العجبُ في إصرار عناصر من هذه الأمة - بيدهم الأمر - على أن يتجنبوا الصوابَ، ويلهثوا وراء طريق الفناء والدمار.
نعم؛ ليس أمرُ كل هذا بعجيب؛ فعملية السقوط التاريخي تشهد مثل هذه الانقلابات في المعايير.
تشهد انقلاب الحق - في العقول - إلى باطل، وانقلاب المعروف - في السلوك - إلى منكر، وانقلاب السفلة إلى قادة، وارتفاع السخافة، وانخفاضَ العلم والنور، نعم، ليس كلُّ هذا بعجيب في العملية التاريخية.
وإنما العجيب أن تتنكر أمةٌ ما لليدِ الكريمة التي أنقذتْها، وأن تبحث جادة عن نفسها، عن طريق لعن الذين أنقذوها لمدة خمسة قرون، كأنها كانت تريد الغرق من قديم، وبدلاً من البحث عن حلول عملية، وشُكْر الذين وقفوا معها في دورانها التاريخي والذين تربطهم بها صلات عقيدة وتاريخ وحضارة، بدلاً من هذا تحرِّف تاريخها لتلعنهم، وتزيف الحقائق لتُحِيلَ إليهم وحدهم أسباب تخلُّفها، مع أنها لم تستطعْ بعدهم أن تتقدَّمَ شيئًا، بل وقعت في أحابيلِ أشرار البشر.
كان هذا بالتحديد هو موقفَ بعض العرب من الدولة العثمانية، التي حمت الحضارةَ الإسلامية والعربَ خمسة قرون من الزمان!
العثمانيون
ويرجع نسب الأتراك العثمانيين إلى قبائل "الغزّ" التركية في بلاد تركستان، وعندما اجتاح المغول تركستان، لجأت هذه القبيلةُ التركية إلى جنوب القوقاز؛ حيث توفي زعيمها "سليمان"، وتسلَّم القيادة بعده ابنه "أرطغول" الذي أنجب "عثمان بن أرطغول"، الذي تنتسب الدولةُ إليه.
وعلى يدِ عثمانَ هذا تحوَّلت الجماعات العثمانية من أسلوبها القَبَلي إلى أسلوب "الدولة" على حساب أملاك الدولة البيزنطية، وخلَّف عثمان ابنه "أورخان" سنة 726 هـ، واستمر ملوكها يتتابعون: "مراد الأول"، "بايزيد" ابنه، "محمد بن بايزيد"، "مراد الثاني بن بايزيد"، "محمد الثاني"، ومحمد الثاني هذا هو المعروف في التاريخ بـ: "محمد الفاتح" الذي ولِي الأمور سنة 845هـ (1451)، والذي نجح في فتح القسطنطينية الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل الإمبراطور البيزنطي "قسطنطين" الحادي عشر سنة 1453م، فقضى بذلك على الإمبراطورية البيزنطية.
في ذلك الوقت كان المماليكُ في البلاد العربية في حالة اجترار ماضيهم، ولم يعُدْ لديهم ما يمكن أن يُعطوه للوجود الإسلامي، وكان رأس الرجاء الصالح قد اكتُشف، وبدأت مصرُ تفقد جزءًا كبيرًا من أهميتها، كما أن "قنصوه الغوري" لم يستطعْ إيقافَ البرتغاليين الذين بدؤوا يسيطرون على البحر الأبيض المتوسط عند حدود احترام الأمَّة الإسلامية.
وفي عهد سليم الأول وقعت الحوادثُ المباشرة التي تمثل آخر خطوة من خطوات التاريخ حين يريد عبور إحدى مراحله!
وتجهَّز سليم الأول سنة 1516م - "922هـ"، وزحف على مصر، وقتل قنصوه الغوري (تحت سنابك الخيول)، وشنق طومان باي - على باب زويلة - بعد أن هزمه سليم في موقعة الريدانية، واستطاع ضم مصر والشام إلى الخلافة الإسلامية العثمانية.
ولم يتوانَ سلطانُ الحجاز، فأرسل مفاتيح الكعبة للسلطان سليم، وحَكم الحجاز باسم العثمانيين، وفي عهد الخليفة سليم الأول وابنه (سليمان القانوني) دخلت معظم البلاد العربية (اليمن - الجزائر - تونس - مراكش - العراق - ليبيا) في حوزة العثمانيين.
ولم تمضِ أكثرُ من عشرين سنة على اتجاه العثمانيين نحو البلاد العربية حتى كان المشرق العربي كله خاضعًا لدولة الخلافة، نعم، المشرق العربي الذي كان آيلاً للسقوط، ومفككَ الأوصال في مطلع العصر الحديث وبداية النهضة الأوربية، والذي لولا ظهور العثمانيين الذين كانوا يُخيفون أوربا ويتقدَّمون في أراضيها، لولا ظهورهم هذا لتحوَّل المشرقُ العربي إلى أرضٍ بِكْرٍ لمغامرات الغرب الأوربي الخارج من أحوال العصور الوسطى، كما فعل بعد ذلك بأربعة قرون بعد أن أسقط الخلافة العثمانية، أو بعد أن انتهى مما كان يسميه تهويلاً لأمره وخوفًا منه: "المسألة الشرقية".