العداوة بين الشيطان وبين بني الإنسان عداوة قديمة بقدم خلق آدم عليه السلام، وقد أظهر إبليس تلك العداوة وأعلن بها حين أمره الله والملائكة بالسجود لآدم، فسجد الملائكة أجمعون وأبى إبليس واستكبر؛ فأخرجه الله من جنته، وطرده من رحمته.. فأقسم اللعين من حينها بعزة الله ليضلن بني آدم أجمعين، وليغوينهم، وليقعدن لهم بكل طريق، وليسلكن في إضلالهم كل سبيل.. {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(ص:82)، وقال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف:16 ،17)، وقال: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا . وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}(النساء:116، 117).
ولما كان بعض الناس قد تغيب عنه هذه الحقيقة ـ أعني عداوة إبليس لهم، وتربصه بهم ـ ذكّرنا الله بها في كتابه؛ قطعا للمعاذير، وإقامة للحجة على الخلق أجمعين، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر:6)، وقال لآدم: {إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ}(طه:117)،
ولما كان الشيطان خبيثا في إغوائه، ماكرا في إضلاله، يستعمل الأيمان الكاذبة، والمقاييس الفاسدة، والمداخل المحببة إلى النفوس، مع خبرة عجيبة بمكامن ضعف الإنسان، وتدرج مذهل للإيقاع به خطوة خطوة، بهمة لا تعرف الكلل، وصبر لا يعرف الملل، فهو يوسوس ويسول، ويخوف ويزين، وينسي ويمني؛ حتى يوقع العبد في شراكه، ثم يحكم عليه نصب شباكه، فلا يستطيع منه فكاكا إلا أن يشاء الله.
ولهذا حذرنا الله من خبث الشيطان، ومن اتباع خطواته، وذلك في أربعة مواضع من كتابه العزيز:
في سورة البقرة 168: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وفي سورة الأنعام 142: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وفي سورة النور21:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وفي سورة البقرة 208: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
وكما هو واضح: فالآيتان الأوليان منها وردتا في معرض الحديث عن الأطعمة وتحري الحلال كسبا وأكلا، والتخويف من الحرام كسبا وأكلا، لأن الشيطان أكثر ما يزين للناس أكل ما حرم الله وشرب ما حرم الله من الخمور والمسكرات والمخدرات والدخان، وكذلك كسب ما حرم الله من الربا والرشوة، فتارة يخوفهم من الجوع والفقر، وتارة يمنيهم بالسعة والغنى والسعادة ونيل الشهوات والمباهج والملذات. ويتحايل عليهم بتغيير الأسماء أو بفتاوى ضالة تأتي من هنا أو هناك.
وأما الآية الثالثة فجاءت في سياق النهي عن الفواحش والعلاقات المحرمة، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وفي معرض أمر النساء بالحجاب، ونهيهن عن الاختلاط، والخضوع بالقول، والأمر بغض الأبصار للجنسين جميعا، وحفظ الفروج وصيانة الأخلاق؛ سدا لأبواب الفواحش والرذائل.
ومعلوم أن شهوة البطن والفرج هما أكثر ما يغزو الشيطان منهما بني الإنسان، وهما أكثر ما يدخل الناس النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: [الفم والفرج].
وأما الآية الرابعة فجاءت في معرض التخلص والحماية من هذه الخطوات: فإذا أردتم أن تحموا أنفسكم من أكل الحرام وكسب الحرام، والوقوع في الفواحش والآثام، فالتزموا دين الرحمن، وتمسكوا بشريعة العدنان، ولا تفرطوا في شيء من الإسلام، ولا تتساهلوا في شيء منها اتباعا لخطوات الشيطان ففي التزامها الحماية والعصمة {ادخلوا في السلم كافة}
تعبير معجز
إن التعبير القرآني بلفظة خطوات هو من معجزات ألفاظ القرآن وفيه دلالات:
أولها: أن الخطوة مسافة قصيرة، وهكذا الشطان يبدأ بالشيء اليسير.
ثانيا: كلمة خطوات فيها دلالة على أنه لن يقف عند أول خطوة في المعصية، بل هي خطة ستتبعها خطوات، وسيئة ستتبعها حتما سيئات.
ثالثا: فيها رسم واضح المعالم لتدرج الشيطان في غوايته: بدءا ببواعث المعصية في النفس حتى السقوط فيها ثم الاستمرار عليها ثم المداومة إلى الموت إلا أن يعصم الله. فهو يبدأ غوايته بخطرة، ثم فكرة، ثم هم، ثم عزم، ثم فعل، ثم عادة، ثم سلوك، ثم مجاهرة، والخاتمة يعلمها الله وحده.
فإذا أردت أن تنجو من حبائل الشيطان فلا تتبع خطواته، بل احذر أول خطوة.
احذر أول خطوة:
احذر أول خطوة: لأنها تبدأ بأصغر وأهون وأيسر الأمور، وتنتهي بأعظم الكبائر، فإن غاية إبليس ومقصده واحد: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}.
احذر أول خطوة: فكم أوصلت الخطوة بعد الخطوة أناسا إلى مهاوي الضلالة، وقد كانت البداية من الصغائر على حين غفلة وتفريط وبعد عن الله عز وجل.
احذر أول خطوة: فإن المعصية باب مغلق، إن تجرأت على فتحة مرة سيسهل عليك فتحة مرات ومرات، فاحرص ألا تفتحه {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}.
احذر أول خطوة: فإن أصعب الحرام أوله، ثم يسهل ثم يستساغ، ثم يؤلف، ثم يحلو، ثم يطبع على القلب، ثم يبحث هو عنه أو عن حرام غيره، ثم ينشره ثم يدعو إليه.
عواقب وخيمة
إن طاعة الشيطان واتباع خطواته تعود على متبعيه بأربعة أمور كلها أسوأ من بعض، وكلها يأمر بها إبليس أتباعه ويدعوهم إليها:
الأمر بالسوء، وإشاعة الفحشاء والأمر بالمنكر، والكذب على الله.. قال تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقال: {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}
قال بعض أهل العلم: الضمير في {إنه} راجع إلى الشيطان، فإنه يدعو أتباعه إلى ذلك.
وقال بعضهم إنما يعود الضمير على أتباع إبليس، فمن يتبع خطوات الشيطان فإنه يترقى من رتبة الضلال والفساد إلى رتبة الإضلال والإفساد فيأمر هو بذلك.. كما قال بعضهم:
وكنت امرءًا من جند إبليس فارتقى .. بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فإن مات قبـلي كنت أحــسن بعـــده .. طرائـق فســـق ليس يحســنها بعـــدي
احذر على عملك
فإذا وفقك الله للقيام بأي طاعة فاحذر إبليس قبل العمل وأثناء العمل وبعد العمل:
فهو قبل العمل: يحاول أن يقعدك عنه، ويمنعك منه، ويزهدك فيه، أو أن يصرفك إلى خير أقل منه. وقد ورد في الحديث: [إِنَّ الشيطانَ قَعَدَ لِابنِ آدمَ بِأَطْرُقِهِ]، وأثناء العمل: يحاول أن يصرفه عن الإخلاص والصدق إلى الرياء والسمعة؛ ليحبط عمله ويضيع أجره.
وبعد العمل: يحاول أن يوقعه في العجب أو يطلق لسانه بالمن، فيبطل صدقته بالمن والأذى.
كيف نواجه الشيطان
بعد أن بانت لنا عداوة إبليس ومحاربته لنا بكل وسيلة، يأتي السؤال المهم: كيف نواجه خطوات الشيطان؟
والإجابة أن ذلك يكون بأمور:
أولا: بالعلم ومعرفة مداخله ومخارجه: قال ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن أول تلبيس إبليس على الناس صدهم عن العلم. وقال بعضهم: فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: من فقه العبد أن يتفقد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم نزغات الشياطين من أين تأتيه.
ثانيا: العمل على زيادة الإيمان و صدق التوكل على الله : فإن الله تعالى قال عن إبليس: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}.
ثالثا: الصوم: فإنه يقوي العزيمة، ويسد مجاري الشيطان. وقد روي: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا عليه مجاريه بالصوم.
رابعا: دوام ذكر الله: فإنه الجُنة التي تحميك من الشيطان، والحصن الذي لا يستطيع دخوله، وقد أخبر الله عن الشيطان أنه وسواس خناس، فإذا غفلت عن الذكر التقم قلبك، فإذا ذكرت الله خنس وولى وذهب وهرب، وليس شيء أشد على الشيطان من الذكر، وليس شيء أحب إليه من الغفلة {استحوذ عليهم الشطان فأنساهم ذكر الله}، {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}.
خامسا: الاستعاذة بالله منه: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستعيذ به من إبليس كما روى البزار مرسلا عن أبي سلمة بن عبدالرحمن: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه].
وأمرنا الله أن نتعوذ به سبحانه من إبليس فقال: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون}، وقال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}.وقال: {قل أعوذ برب الناس . ملك الناس . إله الناس . من شر الوسواس الخناس . الذي يوسوس في صدور الناس . من الجنة والناس}.
سادسا: عليك بالصحبة الطيبة وإياك والتفرد: فإن الشيطان قريب من الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإياك وصحبة السوء فإنها من جند إبليس.
أخيرا كن من عباد الله: فإن الله يحمي أولياءه ويحفظ أحبابه، كما قال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين، ونعوذ بك رب أن يحضرونا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.