السيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم في إخباره عن أمر غيبي مستقبلي وقع كما أخبر به، ومن ذلك تبشيره صلوات الله وسلامه عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ زوج ابنتيه رقية وأم كلثوم ـ بالشهادة، وإخباره بكيفية وفاته. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبلِ حراءٍ فتحرك، فقال: (اسكن حراء! فما عليك إلا نبيٌّ، أو صدِّيقٌ، أو شهيدٌ. وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليُّ وطلحةُ والزبيرُ وسعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنهم) رواه مسلم.
قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزاتٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: منها إخباره أن هؤلاء شهداء, وماتوا كلٌّهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء، فإن عمر وعثمان وعليّاً وطلحة والزّبير رضي الله عنهم قُتلوا ظلماً شهداء، فقتْل الثلاثة: (عمر وعثمان وعلي) مشهور, وقُتلَ الزّبير بوادي السّباع بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال, وكذلك طلحة اعتزل النّاس تاركاَ للقتال, فأصابه سهم فقتله, وقد ثبت أن من قُتل ظلماً فهو شهيدٌ".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته ثم خرج وقال: (لألزمنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولأكوننَّ معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج ووجه هاهنا. قال: فخرجتُ على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس (بُسْتان بالمدينة قريب من قباء)، قال: فجلست عند الباب - وبابها من جريد - حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قُفَّهَا (مكان مرتفع يُجعل حول البئر)، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، قال: فسلمتُ عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب، فقلت: لأكوننَّ بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب (مستأذناً في الدخول)، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رِسْلِكَ (اتئد وتمهل)، قال: فذهبت، فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، قال: ائذن له وبشره بالجنة. قال: فأقبلت حتى قلت لأبى بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يردِ الله بفلان ـ يريد أخاه ـ خيراً يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت عمر فقلتُ له: ادخل ويبشرك رسول الله بالجنة، قال: فدخل، فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يعنى أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه (ما أصابه في آخر خلافته). قال: فجئت، فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك (وهي البلية التي صار بها شهيداً)..) رواه البخاري، وفي رواية أخرى: ( فإذا عثمان، فأخبرتُه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحَمِد اللهَ، ثم قال: الله المُستَعان).
في هذا الموقف والحديث النبوي فضيلة لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأنهم من أهل الجنة، وكذلك فضيلة لأبي موسى رضي الله عنه لأنه حرس النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب، وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي إخباره عن أمر غيبي قبل وقوعه، وذلك بإخباره أن هؤلاء الثلاثة رضوان الله عليهم سيستمرون على الهدى بعد موته صلى الله عليه وسلم، وقد استمروا على الهدى إلى أن ماتوا رضي الله عنهم. وكذلك إخباره صلوات الله وسلامه عليه عن البلوى التي ستصيب عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفيه: بشارة الشخص بالخبر السار، ومحبة الإنسان الخير لأخيه، فإن أبا موسى لما رأى التبشير بالجنة، تمنى أن أخاه يأتي الآن ليبشر مع هؤلاء الذين يبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وفيه: حماية أهل العلم والفضل، وحراستهم والمحافظة عليهم، وفيه أيضاً: أن المسلم إذا أخبر عن مواجهة شيء شديد يقول: الله المستعان.. وقول عثمان رضي الله عنه بعد حمده لله تعالى: (الله المُستَعان) فيه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، والاستعانة بالله تعالى على ذلك.
قال النووي: "في الحديث فضيلة هؤلاء الثلاثة وأنهم من أهل الجنة، وفضيلة لأبي موسى، وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخباره بقصة عثمان والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى".
وقال القاضي عياض: "وقوله فى عثمان: (بشره بالجنة على بلوى تصيبه) إعلام من النبى عليه الصلاة والسلام بأن أبا بكر وعمر وعثمان من أهل الجنة، والقطع لهم بمثل ما أعلمنا بمعنى ذلك، وإعلامه بما يصيب عثمان من البلاء من الناس وهو خلعه وقتله. وقول عثمان: (الله المستعان): تسليم لمراد الله، ولعل هذا هو الذى منع عثمان من القتال والمدافعة عن نفسه، إذ قد أعلمه النبى عليه الصلاة والسلام بحلول ذلك، وأنه قد سبق القدر له بذلك. وفيه من علامات نبوة نبينا عليه السلام وفضائل هؤلاء الخلفاء البيان التام".
وقال الطيبي: "وإنما خُصَّ عثمان به مع أن عمر أيضاً ابتلي به لعظم ابتلاء عثمان، ولا سيما مع امتداد الزمان وقلة الأعوان من الأعيان. (الله المستعان) أي: المطلوب منه المعونة على جميع المؤنة، ومنه الصبر على مرارة تلك البلية. ثم في ترتيب مأتاهم إلى الجنة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى مراتبهم العلية في الجنة العالية في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ومن القرب بحضرة النبي البشير".
فائدة:
البلوى التي أصابت عثمان رضي الله عنه كانت في الفتنة المشهورة التي أوقد نارها عبد الله بن سبأ اليهودي (الذي تظاهر بالإسلام)، وأخذ في التنقل بين البلدان يؤلب الناس ويحرك المنافقين ويجمعهم على عثمان رضي الله عنه، فاجتمعوا وساروا إلى المدينة وتسوروا دار عثمان لاقتحامه وقتله، وكان عثمان رضي الله عنه أصدر أمره لأصحابه أن لا يقاتلوا دونه وينصرفوا، حقناً للدماء، وكان رضي الله عنه قد نشر مصحفه يقرأ فيه، فاقتحموا عليه داره وضربوه بالسيف حتى قُتِلَ رضي الله عنه مظلوماً وذهب إلى ربه شهيداً، ولو قال قائل: لماذا لم يتنازل عثمان رضي الله عنه عن الخلافة؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصىاه بوصية وقال له: (إن الله مقمصك قميصاً، فإن أرداك المنافقون على خلعه فلا تخلعه) رواه الترمذي والطبراني وصححه الألباني، ومن ثم كان تصرفه رضي الله عنه بناءً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله: (فلا تخلعه)، وهكذا وقعت البلوى التي أصابته رضي الله عنه، وتحققت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي في السنة الحادية عشرة من الهجرة، ووقع ما أخبر به عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقُتِل شهيدا في السنة الخامسة والثلاثين.
قال ابن عثيمين: "(مع بلوى تصيبه): اجتمع في حقه (عثمان) نعمة (تبشيره بالجنة) وبلوى، وهذه البلوى هي ما حصل له رضي الله عنه من اختلاف الناس عليه، وخروجهم عليه، وقتلهم إياه في بيته رضي الله عنه، حيث دخلوا عليه في بيته وقتلوه وهو يقرأ القرآن، وكتاب الله بين يديه.. فدخل عيه أولئك المعتدون الظالمون فقتلوه، فقُتِل شهيداً، وبذلك تحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام حينما صعد على جبل أحد وهو جبل معروف كبير في المدينة هو وأبو بكر وعمر وعثمان وارتجّ بهم الجبل، وهذا من آيات الله ليس هو ارتجاج نقمة وخسف، لكنه ارتجاج فرح، فلما ارتج بهم الجبل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، فالنبي هو عليه الصلاة والسلام، والصديق أبو بكر، والشهيدان: عمر وعثمان رضي الله عنهما".
من دلائل ومعجزات نبينا صلوات الله وسلامه عليه التي أيَّده وأكرمه الله بها: ما جاء على لسانه من الإخبار بطريقة موت بعض أصحابه وأعدائه. وإذا كان الموت وما يتعلق به من مكانٍ وزمانٍ وكيفية من الأمور التي اختص الله عز وجل بها نفسه، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان:34)، فما ورد وثبت من أقواله صلى الله عليه وسلم في إخباره بكيفية موت عثمان بن عفان رضي الله عنه وتحقق كما أخبر به، فبوحي من الله تعالى، للدلالة على صدقه ونبوته، وعلو قدره ومنزلته، وأنه رسول من عند الله لا ينطق عن الهوى، قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم:4)، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
نبيٌ يرى ما لا يرى الناسُ حولَه ويتلو كتابَ الله في كل مشهد
فإِنْ قال في يومٍ مقالةَ غائبٍ فتصديقُها في ضحوة اليومِ أو غد
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
آيات ومعجزات النبوة