مما علق في ذهني، وتردد في حنايا صدري؛ سؤالُ عائشة الصديقة لحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: [يَا رَسُولَ اللَّهِ! ابْنُ جُدْعَانَ, كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ يَصِلُ الرَّحِمَ, وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ, فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا؛ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ](رواه مسلم في صحيحه).
فلو أن ابن جدعان قال يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ؛ لكان خليقاً أن ينفعه عمله الإنساني الضخم.
وعزّز ذلك قصة الأعرابي, الذي جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين -فقال: [يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليّ.. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فقال الأعرابي: والذي أكرمك! لا أتطوع شيئا, ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ , أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ]
وكان -صلى الله عليه وسلم- يحمي أعراض بعض المسلمين بقوله: أليس يشهد ألا إله إلا الله؟ كما في قصة عتبان بن مالك في الصحيحين, عندما اتهموا رجلا بالنفاق, وودوا أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا عليه فهلك, وودوا أنه أصابه شر, فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: [أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه, وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ. فقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَيَدْخُلَ النَّارَ أَوْ تَطْعَمَهُ].
فما بالنا نبالغ في إحكام الأسوار, وغلق الأبواب, ونجعل تحصيل النجاة يوم الدين شيئاً أبعد من العَيُّوق، ونحن نرى شرود الناس, وتسلط الشهوات عليهم؟.
أَفْهَمُ جيداً أن العصور الفاضلة - وما شهدت من النضج والطهر والرقي في بعض مجتمعاتها ومدارسها السلوكية وحلقاتها المتوارثة مع حداثة عهدها بالنبوة وصفاء باطنها- يكون لدى بعض خريجيها إحكام لأنفسهم، وضبط لمتبوعيهم, ولكن الدعوة شأن بشري إنساني, يأخذ المكلف من حيث هو, ليترقى به في مدارج الكمال ومعارجه شيئاً فشيئاً. ويستحضر البيئة والمستوى وما يغلب على الناس في عصر من العصور، أو مكان من الأمكنة، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: [إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ, فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ, فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ, فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ, فَإِذَا فَعَلُوا, فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ, وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا, فَخُذْ مِنْهُمْ, وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ](رواه البخاري ومسلم).
وهذا تأصيل لفهم طبيعة المخاطبين, وظروفهم الدينية والثقافية والاقتصادية, كما في إشارة الزكاة، وكما في التدرج في الأوامر, حتى فيما يتعلق بأركان الإسلام.
ومع اتساع دائرة المنتمين للإسلام, وتعدد مشاربهم, وعدم القدرة على استيعابهم في مشاريع سلوكية وتربوية مكثفة، فضلاً عن انفتاح التأثير من وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية والدراما والاحتكاك بين شعوب العالم؛ تبدو حاجة الدعاة إلى القرب من الناس, وتشجيع بادرات الخير في نفوسهم, مهما صَغُرت, وفتح أبواب الخير وطرقه، ومراعاة ضعف الهمم، وتجدد المغريات.
لقد كان من فقه عمر بن عبد العزيز أنه قال: "يجدّ للناس من الأقضية بقدر ما يجد لهم من الفجور".
وتلقى الفقهاء والأصوليون كلمته بالقبول والإطباق, وعدوها من بدائع الحكم وهي كذلك.
وجاء الإمام المجتهد أبو سعيد ابن لب الغرناطي (تـ782هـ) شيخ الشاطبي؛ فكان يرتب عليها كلمة أخرى, هي كالأخت لها:
"يجدّ للناس من المحفزات, بقدر ما أحدثوا من الفتور".
ومن نافلة المعرفة؛ أن صاحب الهمة الضعيفة حين يرى أمامه جبلاً وعراً ,كثير المزالق؛ هو مزلّة أقدام ومضلّة أفهام, يحار فيه الخرّيت, ويضل فيه العليم؛ فهو خليق بالإعراض, وإعلان الهزيمة والانسحاب من المضمار قبل خوض السباق.
بيد أنه إن وفق لرشيد حكيم , عزّز في نفسه الكفاءة, وأغراه بالخطوة الأولى، وأكّد له أن الباقي سيكون أسهل منها، وأن الكثيرين لم يكونوا يظنون بأنفسهم القدرة, ثم واصلوا وعبروا.. وأن فضل الله ورحمته هي للمتعرضين لها؛ فلا تحجب نفسك دونها.. لكان الظن أن يشمر ويمضي..
وإذا مضى كانت النفس وجهاً لوجه أمام العقبات بصفة تدريجية؛ فالعقبات لا تأتي دفعة واحدة، ومع كل تشديد فرج، ومع كل عسر يسر، وفي الحديث بسند حسن: [تَنْزِلُ المَعُونَةُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَدْرِ الْمَؤنَةِ](رواه الحاكم في الكنى وابن عساكر والبيهقي والبزار وابن عدي من حديث أبي هريرة).
حتى يجد المرء نفسه وقد مضى في الشوط, وأحكم التجربة, وتعرض للنفحات, وبنى علاقات وصداقات, واستقرت في نفسه معانٍ من الخير؛ تردعه عن الانحلال التام, وتنادي به إلى التشمير، ولعل هذا ما سماه النبي -صلى الله عليه وسلم-[وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ](من حديث النواس بن سمعان, عند أحمد, والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي).
فهل يلتقط الداعية هذا الخيط, ويسهّل للناس سلوك الطريق, ويحفّز هممهم للانخراط، أم يظل منفّراً لهم منه بالمبالغة في ذكر أشواكه وعقباته وصعوباته وتحدياته, والإيغال في ذلك, وكأن لسان حاله يقول: من لم يكن موفور العزيمة تام الإرادة قوي النفس فلا يضع قدمه فيه!
ألم يقل بعض السلف -وينسب أيضا للشافعي -رحمه الله -: "سيروا إلى الله عرجا ومكاسير , فإن انتظار الصحة بطالة"؟
أليس في التنزيل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(القمر:17).
أليس في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ وأبي موسى الداعيتين المبعوثين إلى اليمن: [يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا](رواه البخاري ومسلم)؟.
أمر بالتيسير ونهى عن ضده، وأمر بالتبشير والتشجيع والترغيب , ونهى عن ضده, مما ينفر ويباعد!
على أن هذا مما يتفاوت بحسب نوع المخاطب، فثم مخاطبون قطعوا مشواراً طويلاً, واستقامت نفوسهم, واحتاجوا إلى أفق جديد, يمضون إليه برغبة واختيار.
سعيا إلى الله بغير زاد.. .. .. إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد.. وكل زادٍ عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
لكن الخطاب العام لجماهير الأمة، وفي الوسائل المعولمة كالقنوات والشبكات، أصبح هو لب الخطاب وأساسه؛ فهو يحتاج إلى ضبط وإحكام وعناية بالقدر الواسع العام الذي ينتظم الناس جميعاً. ولن يعدم الداعية الحصيف لغة راقية مبتكرة, يخصّ بها أقواماً من المخاطبين دون أن ينجم عن ذلك ازدواجية في الخطاب, ولا اضطراب في المعايير.
جدير بالداعية أن يجعل الأبواب مشرعة للسالكين، وأن يحفز النفوس لفعل الخير وإن قل، وترك باب من الشر، ولو كان مصراً على باب آخر، وتعميق ولاء الناس لدينهم وصلتهم بربهم ولو كان ثم نوع تقصير أو غفلة، ولكل عصر طريقته وأسلوبه المقتبس من شمولية الشريعة, والمتوافق مع متغيرات العصر ومستجداته.
ومن هذا تغليب جانب الرحمة والحب والرفق والترغيب، وهو أصل في الشريعة باتفاقهم، فالحب قبل الخوف والرجاء، ويتأكد هذا في حالة غفلة الناس وصدودهم.
الدعوة ليست ملكية خاصة لي, أريد أن أحجرها عن الآخرين, لئلا تكون كلأ مباحاً متاحاً!
الدعوة هي كلأ طيب من رزق الله الإيماني العلمي لمن يشاء من عباده، فلماذا أحكم عليها الأسوار, وأدقق في هوية القادمين، وأتشدد في دخولهم.. أليست هي رحمة الله التي وسعت كل شيء؟
أَمِن العدل والإنصاف أن يدّخر فئام من الشباب لأنفسهم لفظ الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ليحكموا على من سواهم بالهلاك والخذلان؟ وكان الأجدر أن يحسنوا الظن بغيرهم وينحو على أنفسهم بالملامة..
فاللهم اغفر لنا ولهم, واهدنا إلى سواء السبيل.