فرضت الحياة الرقمية نفسها على واقعنا بمميزاتها السحرية، وخدماتها الخيالية من حيث السهولة والسرعة والأداء العالي، فضلا عن فتح قنوات الاتصال المعرفي والاجتماعي مع العالم من جميع جوانبه، وكسر حواجز اللغة والمكان والزمان في وقت واحد، وحرية التعبير والتعرف على أسرار وخبايا المسكوت عنه في المجتمعات سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي مما كان في الماضي خطا أحمرا لا ينبغي تجاوزه، بل وتراجعت أشياء تقليدية في حياتنا كالرسالة الخطية والجريدة والمجلة الورقية، والزيارات الاجتماعية، ووسائل الإعلان النمطية، فضلا عن أسلوب الشراء التقليدي بالتجول بين المحلات في الأسواق المختلفة.
وبدل أن تنفتح الأجواء حولنا صارت تضيق وتضيق، وتحتل تدريجيا وسطا الكترونيا افتراضيا رحبا قد يتملكنا إلى درجة الإدمان والهوس، حتى المشاعر التي نحس بها ونعبر عنها وضعوا لها رموزا وأشكالا على برامج المحادثة عوضا عن لغة الكلمات.
ورغم أجواء الحرية الرحبة في العالم الرقمي إلا أن هذه الحرية ليست بلا ثمن، فلقد طالت خصوصياتنا وعقيدتنا وأموالنا وسائر شئوننا، وأذكر هنا على سيبل المثال: الهجوم على العقائد والأديان، والإباحية، والجريمة الالكترونية، والتنصت والقرصنة التي اخترقت قواعد بياناتنا، ولا أنسى قصة الصحفية «اوكتافيا» التي خسرت عملها في «CNN» بسبب رأي خاص عبرت عنه على موقع تويتر لم يعجب رؤساءها .. الأمر الذي عبر عنه أحد المحللين بأن الحرية في العالم الرقمي قد تكلفنا ثمنا باهظا قد يطال أي وجه من أوجه حياتنا سواء الشخصية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
المعرفة الرقمية والسطحية:
لا شك أن قنوات المعرفة في العالم الرقمي باتت أكثر سهولة من حيث يسر المطالعة وتنوع المعلومة وقلة الكلفة، خاصة وأن المطبوعات الورقية تلاقي العديد من الصعوبات، فمصانع الورق العالمية بدأت تعانى ضغوطا بسبب البيئة، وهو ما تجسد في ارتفاع سعر طن الورق، كما أن كل طن ورق يحتاج من أجل تصنيعه إلى 17 شجرة، عمرها 50 عاما، إضافة للطاقة كهربائية تصل إلى450 كيلوات، وكميات ماء هائلة. أضف إلى ذلك أن شراء الكتب تكتنفه بعض العوائق منها عدم توفر مساحات للتخزين خاصة وأن منازلنا صارت ضيقة بفعل التكدس السكاني، فضلا عن أن الكتاب ربما تدفع فيه الكثير ولا تجده ذو قيمة تذكر، وهذا يتكرر كثيرا في ظل كثرة دور النشر.
إلا أنه على صعيد آخر يرى المحللون أن الإنترنت –مثلا- أكسبت متعامليها نوعا من ضعف التركيز، حيث صار المتصفح يمل من المقالات الطويلة بعكس القارئ للكتب الورقية الذي يتسم بطول النفس والصبر على المطالعة، وبالتالي بات هناك صعوبة في هضم المواد الطويلة والعميقة على الإنترنت، وتحول أغلب الاستهلاك المعلوماتي إلى معلومات: صغيرة، خفيفة، سريعة، ملونة، بما يتناسب مع طبيعة القدرات الذهنية في تلقي المعلومات ومعالجتها. هذا خلف بالطبع رفضا ذاتيا للتعمق في الموضوعات، والرضا برءوس العناوين غالبا، خاصة مع وجود طوفان معلوماتي متدفق ومثير لو أحب المرء أن يلم بأبعاده فلن يساعده العمر .. وهكذا أصبحنا مثل متزلج يتزلج على سطح بحر المعرفة بشكل يبدو مثيراً، بعد أن اعتادنا سابقا على الغوص في نفس البحر!
ضحايا التواصل الرقمي:
وفرت الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت نوعا من التواصل في مجتمعات افتراضية تتسم بتفاعلية سهلة وميسورة عكس أنماط التواصل التقليدية التي تحتاج إلى الحِل والترحال، واللقاءات بالأبدان لا بالسماعات والأزرار، إلا أن هذا النوع من التواصل الاجتماعي الرقمي صار بيئة خلف الأستار وبين الكواليس، كُسرت فيها الحواجز القيمية والتقاليد والثوابت المتعارف عليها، وبالطبع لم تخلو من علاقات مشبوهة، وابتزازات وجرائم، والكثير من المشاكل التي تطال الخصوصية حيث يقول «بينار»: "إن المشكلة الأكبر هي عدم وجود قواعد تتسم بالفعالية لمواجهة التهديدات الخاصة بالخصوصية على مستوى العالم من جانب مقدمي الخدمة الذين تفتقر بلادهم إلى تشريع مناسب بشأن تأمين الإنترنت".
كما أشارت دراسة أعدتها «وكالة حماية البيانات» في بريطانيا إلى أن 25% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 -25 عاما سيواجهون مشكلات مستقبلا في الحصول على عمل بسبب المعلومات الشخصية التي وضعوها على شبكات التواصل الاجتماعي والتي ستظل باقية على الإنترنت.
ويقول الباحث الأمريكي «جيري ماكليندون»: "إن أطفال اليوم ربما لديهم من العلم والمعرفة بأجهزة الحاسبات «الكومبيوتر» أكثر مما لدى آبائهم. كما أن هواتفهم الخلوية التي يحملونها في حقائبهم مجهزة بأحدث تقنيات إرسال واستقبال ملفات الفيديو والصور والرسائل النصية والاتصال بشبكة الإنترنت، ويستخدمونها جميعًا باحتراف، مما يعرض مجتمعاتنا للخطر، وقد أثبتت الحوادث الخطرة التي تحدث يوميا صدق مخاوفنا".
بث نفسك
حتى الإعلام لم يفته أن يصطبغ بالصبغة الرقمية، فعبر هاتفك المحمول أو مواقع الإنترنت يمكنك بسهولة سماع الإذاعات ومشاهدة القنوات المفضلة لديك ومقاطع الفيديو المحببة إلى قلبك.
يقول المهندس يوسف الحضيف: "لقد أسهم موقع «يوتيوب» على توفير قنوات توزيع مجانية لكل من يرغب، خاصة مع ظهور برامج إخراج الأفلام سهلة التعامل ومنخفضة التكلفة، مما جعل هوليوود تفقد ريادتها في صناعة الأفلام، ولعلك ستسمع عن أفلام جديدة يتم إخراجها في كمبيوتر شاب لم يتجاوز حدود غرفته .. في العالم الرقمي، سيكون نجوم التمثيل غير حقيقيين، وحتى أصحاب الأصوات العذبة سيكونون افتراضيين، وستتبنى الشركات التجارية شخصيات وهمية، ذات جمال فائق وحنجرة ذهبية، تم رسمها وبرمجتها بأجهزة الكمبيوتر، والعجيب أنها ستمثل بطولات الأفلام بكل شوق وجاذبية، وسيتعلق بها جمهور كبير، والعجيب في هذه الشخصيات أنها لا تكبر ولا تموت، بينما يكبر ويموت المعجبون بها .. في العالم الرقمي، أصبح كل فرد جهة إعلامية مستقلة، يحاكي الجريدة بمدونته المكتوبة، ويحاكي الإذاعة بمدونته الصوتية، ويحاكي التلفزيون بمدونته المرئية، وكما قال يوتيوب: «بث نفسك»"
كل شيء بات ذكيا ولكن!
البطاقات الذكية، والهواتف الذكية، بل وحتى القنابل الذكية .. كل شيء في العالم الرقمي يسعي لمزيد من الخدمات والرفاهية. ومن طريف ما طالعت أن شركة نوكيا وفرت برنامجا على بعض هواتفها المحمولة يريح السيدة من عناء كتابة قائمة المشتريات الأسبوعية «ورقة المقاضي»!. البرنامج عملي ذو واجهة بسيطة. القسم العلوي من واجهة البرنامج يحتوي على خيارين الأول «/Allالكل» والثاني «Need/الاحتياجات». في حالة اختيار الخيار الأول All ستظهر قوائم عديدة تحتوي على كل المشتريات المنزلية الممكنة. القوائم مصنفة إلى عدة تصنيفات، مثل: المشروبات, المعلبات, الفواكه, الأطعمة المثلجة, الأدوات الشخصية.. إلخ.
أما الخيار الثاني Need فسيكتب فيه كل قائمة المشتريات المطلوبة. ولكتابة قائمة المشتريات علي ربة المنزل اختيار خيار All ثم اختيار التصنيف المطلوب ومن ثم النقر على كل غرض مطلوب شراؤه وكتابة الكمية المطلوبة منه ليتم إضافته تلقائيا إلى قائمة المشتريات الموجودة تحت خيار Need.
وأثناء التسوق في السوبر ماركت, ما علي السيدة إلا تشغيل البرنامج على الهاتف المحمول، واختيار خيار Need لتظهر قائمة المشتريات. وعند شرائها أي غرض تقوم بالنقر على اسم الغرض فتظهر علامة صح بجانبه ويتم إرساله إلى أسفل القائمة.
أيضاً توجد ميزة جيدة في البرنامج وهي إمكانية تسجيل سعر كل غرض تم شراؤه ليحسب البرنامج في النهاية قيمة المبالغ المدفوعة.
ميزة عملية أخرى وهي إمكانية إرسال قائمة المشتريات المكتوبة كرسالة نصية إلى هاتف محمول آخر (إلى هاتف الزوج مثلا في حالة قيامه هو بالتسوق)!!
ومع انخفاض سعر مكالمات الهاتف المحمول صار الكثيرون -خاصة الشباب- يمتلكون شريحتين أو أكثر، وكشفت دراسة أجريت في تونس ونشرتها صحف محلية في الآونة الأخيرة أن الشباب في تونس ينفقون على الهاتف أكثر مما ينفقون على التعليم وأحيانا على الأكل أيضا. كما أن المصريين يتكلمون في المحمول بـ35 مليار جنيه سنويا.
ولا ننسى انتشار الهواتف المحمولة المجهزة بكاميرات زاد الطين بلة، وصار الكل متخوف من المراحيض العمومية ومحلات الملابس، وقاعات الأفراح، وصالات الألعاب الرياضية بل وكل الأماكن الاجتماعية، وصار هاجس البحث عن كاميرا هنا أو هناك مسيطرا على النساء قبل الرجال خشية التقاط صورة تنتشر بين الهواتف النقالة ومواقع الإنترنت كانتشار النار في الهشيم.
وأخيرا
إن مقصودنا في هذا العرض الموجز ليس مهاجمة التكنولوجيا بكافة صورها، ولا التضخيم أو التهويل
من تبعاتها وسلبياتها، ولكنها قضية رأي عام باتت تمس الصغير قبل الكبير، والمرأة قبل الرجل، والمثقف قبل العامي، والمستهلك قبل المنتج .. قضية تحتاج إلى وعي بإنجازاتها، مع ترشيد الاستخدام وفقا لاحتياجاتنا، وعدم الانسياق أو الانجراف إلى هوتها السحيقة، الأمر الذي سيكلفنا كثيرا من قيمنا وثوابتنا وسمعتنا، بل وربما يطال البلاء من حولنا أيضا مما لا ذنب لهم إلا مغامراتنا الغير محسوبة.
لابد أن نعي «فقه ثقافة الاستهلاك» بما يحقق احتياجاتنا ولا يثير كوامن الرغبات الجائحة بداخلنا، فنعيش شهوانيين لا ربانيين، ولا ننسى أنه لا تزولا قدما عبدا يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟. «حديث حسن: صحيح الجامع »
- الكاتب:
اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار ) - التصنيف:
ثقافة و فكر