خلق الله عز وجل البشرية لتوحيده وعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البيِّنة:5)، ثم مرت على البشر حقبة من الزمن ضلّوا عن التوحيد وحادوا عنه، كما روى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يومٍ في خُطبته: (ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا، كل مالٍ نحلتُه عبداً حلال، وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أنْ يُشركوا بي ما لم أُنزِّلْ به سُلطانا).
وبداية الشرك أتت من الغلو في الصالحين وإنزالهم فوق منزلتهم، والاعتقاد بأنهم يعلمون الغيب، وأن الخير والنفع بيدهم، ويأتي عن طريقهم وبواسطتهم، ولذلك قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح:23): "هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِخَ العلم عُبِدَت، وكذا روي عن عكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن إسحاق، نحو هذا.. وقال ابن جرير: كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم".
الغلو في الأنبياء والرسل:
من المعلوم من شأن النصارى أنهم غلوا في نبيهم عيسى عليه السلام حتى قالوا: هو الله، وبعضهم قال: هو ابن الله، وبعضهم قال: هو ثالث ثلاثة. وقد غلا اليهود من قبلهم مثل هذا الغلو حين قالوا: عزير ابن الله، كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة:30). وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أمتنا ستقلد الأمم السابقة فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) رواه البخاري. ومن متابعة أمتنا للأمم السابقة: غلو البعض في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بتوجههم له بالدعاء، واعتقادهم أنه يعلم الغيب، وبيده النفع والضر، كما قال القائل:
يا سيدي يا رسول الله يا سندي يا واسع الفضل والإحسان والمدد
يا من هو المرتجى في كل نازلة ومن هو المورد الأحلى لكل صدِ
كم شدة أنت كافيها وكم محن حلت يمينك منها سائر العقد
وقال آخر مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ونسي هؤلاء قول الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:188)، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام:59)، وقوله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين سأله عن موعد الساعة، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما المسئول عنها بأعلمَ منَ السائل) رواه مسلم.
وأما ما جاء على لسانه صلى الله عليه وسلم بإخباهر عن أمور غيبية تحققت كما أخبر بها، فبوحي من الله تعالى، كما قال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجـن:26 : 27)، وذلك للدلالة على صدقه ونبوته، وعلو قدره ومنزلته.. ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالبلاغ أتم القيام، وبلّغ رسالته للعالمين أتم البلاغ، وتحمل في سبيل تبليغ دعوته صنوف الأذى والاضطهاد، وأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأفضل الأنبياء والمرسلين، فهل من الأدب معه ومن جملة حقوقه على أمته: الغلو فيه والتجاوز في مدحه، مع أنه نهانا عنه وحذرنا منه؟! والإجابة بالقطع لا، ومن ثم ينبغي أن نعلم حقوقه صلى الله عليه وسلم علينا، وأن نقوم بها نحوه دون مغالاة أو تقصير.
حقوق النبي صلى الله عليه وسلم:
حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على كل مسلم كثيرة، منها:
ـ تصديقه والإيمان به، وطاعته وعدم مخالفته، قال الله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} (التغابن:8)، وقال: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132)،وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران:31)، وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى) رواه البخاري.
ـ محبته صلى الله عليه وسلم، وحب ما يحبه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) رواه مسلم، وقد روى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، لأَنْتَ أحبّ إليَّ مِن كلِّ شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأَنتَ أحبّ إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر).
ولمحبته صلى الله عليه وسلم علامات، منها: طاعته والاقتداء به، والتمسك بهديه وسنته، ومحبة أصحابه، وحب ما يحبه صلى الله عليه وسلم، كحبه لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وحبه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم لما سُئِل: (من أحب الناس إليك فقال: عائشة، قالوا: من الرجال، قال: أبوها) رواه البخاري.
ـ توقيره وتعزيره، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفتح 9:8)، قال ابن تيمية: "التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده و منعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة و طمأنينة من الإجلال و الإكرام، وأن يعامل من التشريف و التكريم و التعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار"، وقال ابن كثير: "التوقير: هو الاحترام, والإجلال, والإعظام"، وخير تعظيم لرسول الله تعظيم أمره وهديه وسنته.
ـ الصلاة والسلام عليه، لقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56)، قال القرطبي: "والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره"، وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما مِنْ عبدٍ يُصَلّي عليَّ إلَّا صَلَّتْ عليه الملائكة، ما دام يصلي عليَّ، فلْيُقِلَّ العبدُ من ذلك أوْ لِيُكْثِرْ) رواه أحمد وحسنه الألباني، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَسِيَ الصَّلاة عَلَيَّ، خَطِيءَ طريق الجنة) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، وصاحب المقام المحمود، والحوض المورود, وأول من تفتح له أبواب الجنة، وأول من ينال أعلى منازلَها، وهو صاحب الشفاعة العظمى .. إلى غير ذلك من فضائله وخصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك فهو أيضا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ محمد بن عبد الله، رسول الله، نبيه وعبده، لا يتجاوز هذه المنزلة، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: 110)، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعض الكلام فقال: ما شاء اللهُ وشئتَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجعَلْتني مع الله عِدلًا (وفي لفظ: ندًّا)، لا، بل ما شاءَ اللهُ وحدَه) رواه أحمد وحسنه الألباني. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أن ناساً قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) رواه أحمد وصححه الألباني. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُطْروني (لا تتجاوزوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.