بحث العلماء مسألة إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن، ودارت بينهم الحوارات والنقاشات في الساحات العلميّة، ولم يخرج قولهم عن نطاق التنظير الاصطلاحي المحصور في هذا الإطار، إلا أن جاء من يستغلّ هذا الحوار العلمي الموضوعي، فينقله من ساحة العلم إلى ساحة معركته المحتدمة في إنكار ما صحّ من الأحاديث في مجال العقيدة، فقام بردّها تحت ذريعة أنها مجرّد أخبار آحاد!
ومن هنا كانت الحاجة ماسّة إلى تقديم الأدلّة البيّنة الدالة على لزوم الأخذ بأي حديثٍ صحّ عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، من غير تفريقٍ بين حديث متواترٍ وآخر آحاد، والتأكيد على الانحراف الواقع في منهج الاستدلال على مسائل العقيدة مما أحدثه علماء الكلام قديماً، وما جرّهم من ردّ الكثير من الأحاديث الصحيحة الشهيرة، وعدم قبول ما جاءت به من مسائل عقديّة؛ وما ذلك منهم إلا لورودها من طرقٍ آحاد، لا من طرق متواترة.
وقد استدلّ القائلون بلزوم قبول خبر الواحد في العقيدة بجملة من الأدلّة، وهم فريقان: منهم من يرى بأن خبر الواحد مفيدٌ للعلم بنفسه، أو بالقرائن، فيكون استدلالاهم على إفادتها للعلم بغرض تثبيتها ولزوم العملل بها؛ لأن في إفادتها للعلم دليلٌ على وجوب قبولها. ومنهم من يرى ظنيّة أخبار الآحاد، لكنّه لا يُنازع في قبولها ولزوم العمل بها، كما سيتضّح لاحقاً. وتتنوّع أدلّة المحتجّين بخبر الآحاد بحسب الآتي:
الأدلة من القرآن
الدليل الأول: قول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} (الحجرات:6)، وفي قراءة: {فتثبّتوا}. وجه الاستدلال: أن الله جلّ جلاله خاطب المؤمنين كافّة بخطابٍ عام، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} يأمرهم -بمنطوق النص- بالتثبت فيما يصلهم من أخبار، ويتبيّنوا حقيقتها وصدقها، وينهاهم –بمفهوم ذلك الخطاب- عن قبول خبر الفاسق.
والتثبّت والتبيّن معنيان متقاربان ومتداخلان؛ فإذا كان خبر الفاسق لا يُقبل دلّ ذلك على لزوم قبول خبر العدل الصادق، وإلا لما كان عدم قبول خبر الفاسق معللاً بالفسق، ولأن الأمر بالتبيّن مشروطٌ بمجيئه من الفاسق، ومفهوم الشرط معتبرٌ على الصحيح، فيجب قبوله والعمل به مطلقاً إن لم يكن فاسقاً، كما لا يجب التثبّت بمقتضى القراءة المتواترة: {فتثبّتوا}، وقبول الخبر مطلقاً، بغض النظر إن كان موضوعه العقائد أو الأحكام، بل هو لفظ عام، يقتضي عموم الحكم. ولو كان خبر الواحد لا يقتضي قبولَه لما اقتصر الأمر الإلهي بالتثبّت من خبر الفاسق فقط دون العدل الثقة، فكانت الآية دليلاً على قبول خبر الواحد في العقائد.
يقول ابن حزم: "أمر سبحانه وتعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق...وليس إلا توقفٌ أو بِدَار، ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا الترك جملة، والتوقف هو أيضاً ترك، فلما خصّ خبر الفاسق بالتوقف فيه، وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق، وجب البِدَار ضرورةً إلى خبر العدل، فبطل الوقفُ إلا في خبر الفاسق".
الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة:122).
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر الطائفة بأن تتفقّه في الدين -ويشمل ذلك ما أفاد العلم وما أفاد العمل جميعاً-، وما كان في العقائد أو الأحكام، وأن تُباشر إنذار قومها حين الرجوع إليهم، والعلماء الذين استعرضوا هذا الدليل يذكرون عدّة أمور:
منها: أن الطائفة تقع على الواحد فما فوق، فيكون شاملاً لناقلي الأخبار ممّن لم يصلوا حدّ التواتر، يقول صاحب "الصحاح": "والطائفة من الشيء: قطعةٌ منه. وقوله سبحانه وتعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور:2). قال ابن عباس رضي الله عنهما: الواحد فما فوقه". وعلى ذلك سار المحدّثون، فقد قال البخاري في "صحيحه": "ويسمى الرجل طائفة لقوله سبحانه وتعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهم} (الحُجُرات:9)، فلو اقتتل رجلان دخل في معنى الآية". وقال الخطيب البغدادي: "ذكر الله سبحانه وتعالى الطائفة في هذه الآية، واسم (الطائفة) يقع على القليل وعلى الكثير، فوجب أن يثبت الحكم بمن وقع عليه هذا الاسم".
ومنها: أن الإنذار المذكور في الآية عام، وعمومه يقتضي قبول خبر الواحد فيما يتعلّق بالعقائد وغيرها، والإنذار هو الإعلام بما يفيد العلم، كما يقول ابن القيم، فتكون الآية مفيدةً لزوم تبليغ العقيدة وغيرها مما جاء به الشرع.
ومنها: أن أمر الله سبحانه وتعالى لهذه الطائفة بالإنذار دليلٌ على أن ما جاؤوا به من النذير لازم القبول عند القوم الذين تمّ إنذارهم، وإلى هذا يشير الخطيب البغدادي بقوله: "إن أمرَ الله إياهم بذلك دليلٌ على أن على المنذَرين قبوله، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق:2) وقوله سبحانه: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة:282) فكان ذلك دليلا على قبول قولهما".
ومنها: أن قوله سبحانه وتعالى: { لعلهم يحذرون}، يدلّ على معناه من إيجاب الحذر، ولولا قيام الحجة عليهم ما استوجبوا الحذر.
الدليل الثالث: قول الله سبحانه وتعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159)، ومثله قوله سبحانه: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} (آل عمران:187). وجه الاستدلال: أن الله جلّ جلاله أمر صاحب العلم أن ينشر علمه، وأن يبيّنه، ونهاه أن يكتم ذلك العلم، ووصفُ الهدى والبينات شاملٌ لكل ما جاء وحياً من الله سبحانه وتعالى، فالآيتان تتفقان على بيان الوعيد في حقّ كلّ من كتم شيئاً من الدين، فيشمل ما كان متواتراً وما كان آحاداً، وكلامه -صلى الله عليه وسلم- كله وحي، والوحي ذكر، والذكر محفوظ، قال الله سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9)، وكما يجب على أهل العلم بيانه، وجب على من تلقّاه قبوله في العقائد والأحكام من غير فرق، ولو لم يجب العمل بخبر الآحاد أو الاعتقاد بمضامينه العقديّة لم يكن في إظهاره فائدة.
الدليل الرابع: قول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} (المائدة:67)، وقوله سبحانه وتعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} (النور:35). وجه الاستدلال: أن الأمر قد توجّه من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما تنزّل عليه من الوحي، وجعل سبحانه وتعالى البلاغ والبيان هي وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، قال الحق تبارك وتعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى:48). والبلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلّغ، ويحصل به العلم، وقد شهد الصحابة رضي الله عنهم بحصول البلاغ من النبي صلى الله عليه وسلم، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجّة الوداع: (يا أيها الناس! أذكركم الله، إن كنتم تعلمون أني قد بلغت رسالة ربي لَمَا أخبرتموني، وإن كنتم تعلمون أني قصّرت عن شيء من تبليغ رسالة ربي لَمَا أخبرتموني)، قالوا: نشهد أنك بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، وقضيت الذي عليك. رواه البخاري في "خلق أفعال العباد". ولو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم، ولا يستلزم اعتقاداً، لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العباد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم، ويُقال أيضاً: لو صحّ القول بأن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد في باب المعتقد إن كانت آحاداً، للزم من ذلك أحد أمرين:
- إما القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ غير القرآن، وما روى عنه بطريق التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ.
- أو القول بإن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً ولا اعتقاداً.
وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره -صلى الله عليه وسلم- التي رواها الثقات العدول الحفاظ لا تُقبل في العقائد، وهذا ظاهرٌ لا خفاء فيه. يقول الحافظ ابن حجر: "واحتج بعض الأئمة بقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة:67) مع أنه كان رسولاً إلى الناس كافّةً، ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذّر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورةً؛ ولتعذّر خطاب جميع الناس شفاهاً، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم".
الدليل الخامس: قول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:135). وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالقسط والشهادة لله، والأمر هنا للوجوب، ومن أخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما سمعه من الخطاب فقد عمل بما جاء من مقتضى الشهادة لله المأمور بها، ممتثلاً لما كلّفه الله سبحانه وتعالى به، فإيجاب شهادته بها هو إلزامٌ بقبول شهادته تلك، وإلا لما كان للأمرِ بأداء تلك الشهادة معنى، ما يعني قبول خبر الواحد مُطلقاً، وهو المطلوب. قال صاحب "كشف الأسرار": "أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله، ومن أخبر عن الرسول بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك واجباً عليه بالأمر، وإنما يكون واجباً لو كان القبول واجباً، وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها، وهو ممتنع".
الدليل السادس: قول الله سبحانه وتعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء:36)، وقوله سبحانه وتعالى : {إن يتبعون إلا الظن} (النجم:23). وجه الاستدلال: أن الآية تنهى عن اتباع ما ليس لنا به علم، أو العمل به، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقولون بمقتضى أخبار الآحاد ويعملون بها، ويثبتون لله سبحانه وتعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قَفَوْا ما ليس لهم به علم.
الدليل السابع: قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (النساء:59). وجه الاستدلال: أجمع المسلمون على أن الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا على أن وجوب الرد إليه لم يسقط بموته، فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا يُستفاد منها عقيدة، لم يكن للرد إليه فائدة.
وقد استدلّ العلماء بجملةٍ من الأدلّة القرآنيّة غير ما تم ذكرُه هنا، وهي وإن كانت غير ظاهرة الدلالة إلا أنها تتفق مع المنهج العام الذي رسمته الآيات الكريمة التي استدللنا بها، ألا وهو: عدم التفريق بين المتواتر والآحاد في مسائل العقيدة. وثمة أحاديث نبويّة استدلّ بها أهل السنة على ذلك، نرجيء ذكرها إلى مقالةٍ قادمة بإذن الله.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
نوافذ عقدية