«ماريا مونك»، راهبة كندية كاثوليكية، عاشت في مونتريال، في القرن التاسع عشر، لكن شهادتها لا تزال تفسر لنا كثيراً مما نشهد في هذا القرن من تجاوزات فساق الكنائس في أوروبا؛ فاعتداءات القساوسة على من تحت أيديهم ليست بدعاً في تاريخ الكنيسة، بل هي منهج مطرد متواتر يوشك أن يصير أصلاً.. لكن العجيب في هذا ما دونته هذه الراهبة حول ما يجري في أعماق الأديرة، مما تتفطر له القلوب القاسية، وسأرويه بنصه من كتابها «فضائح بشعة» بإيجاز غير مخلّ.
تحدثنا «مونك» عن راهبة في الدير تدعى «فرنسيس»، لم تكن جريمتها إلا أن شعرت كما يشعر أسوياء البشر تجاه شنائع الكهنة، فأسرّت إلى إحدى رفيقاتها برغبتها في ترك الدير، فماذا كان مصيرها؟ تقول «مونك»: (خمسة أشهر مضت منذ أن ترهبنتُ، كان الجو بارداً، لعله كان شهر سبتمبر أو أكتوبر، ذات يوم دعتني الراهبة العليا وراهباتٍ أخريات لتلقي علينا أوامرها في حجرة خاصة، ألفينا لديها الأسقف وبعض الكهنة، قالت بنبرة عنيفة متسلطة: «انطلقن إلى حجرة فحص الضمير واجرُرْن سان فرنسيس إلى الطابق العلوي». لم أكن بحاجة إلى غير هذا الأمر الغريب بتلك النبرة وذلك الأسلوب، ليثير فيّ توقعات كئيبة، كم تمنيت أن أبذل ما أملك كيلا أبرح مكاني، لكنني خشيت عاقبة عصيان الراهبة العليا فلحقت بالأخريات إلى حجرة فحص الضمير.
دخلت الحجرة وخلفي رفيقاتي، ناديتها: «سان فرنسيس! جئنا لطلبك». التفتَت المخلوقة المسكينة بطرف كسير فلم تنبس ببنت شفة، وأسلمت يدها. اغرورقت عيناي، لم يخالجني شك أنها كانت تعد مصيرها محتوماً. ولما دخلنا معها إلى حيث أُمر بها شعرتُ أن قلبي يغور. كان بانتظارنا الأسقف والراهبة العليا وخمسة من الكهنة: بونين ورتشاردز وساڤاج وآخران. تملكني خوف شديد من أن تندّ مشاعري التي كادت تغمرني فينالني سخط الجلادين الذين يعذبون المسكينة البريئة. هذا الخوف - مع ما شعرت به من همّ لأجلها - كاد أن يفقدني صوابي، فلما دخلت الحجرة اتجهت إلى إحدى زواياها، لأسند نفسي بالاتكاء على الحائط، ولولاه لانهارت قواي.
كان مما سُئلَتْه إن كانت نادمة على ما سُمع منها - إذ وشت بها إحدى الراهبات -، وإن كانت تؤثر الحبس في زنزانة على ما تُوعّدت به. لكن الأسقف تدخّل، فكان من الواضح أن مصيرها قد حسم، وأنه لا مناص. أجابت أنها عزمت على مقاومة كل دعوة إلى ارتكاب جرائم تمقتها، وأنها تؤثر الموت على أن تتسبب في قتل أطفال مسالمين. صرخ الأسقف: «كفى! اقتلوها!».
انقضَّت عليها راهبتان تنتظران تنفيذ الحكم. أعتقد أن بعض من شاركن في العملية كن كارهات مثلي، لكنني أجزم أن الأخريات كن مبتهجات، فقد أظهر سلوكُهن بلا شك روحاً تتعطش للدماء، لكن أكثر الحاضرين شيطانية كانت الكاهنة هيبولايت، فقد أقدمت على المهمة المرعبة بكل استعداد، وتطوعت للقيام بأكثر الأدوار إثارة للاشمئزاز، أخذت «كِعاماً»[كمام يوضع في الفم ويشد للخلف يمنع من الكلام] وأقحمته في فم الراهبة المسكينة، ولما استقر بين فكيها المتنافرين شدت وثاقه خلف رأس الضحية.
وُضعت السجينة على فراش، وجهُها إلى أعلى، وأُثبِتت بالحبال لئلا تتحرك. وجيء بفراش آخر فألقي عليها. هنا وثب أحد الكهنة – بونين – على الفراش في هياجٍ يدوسه بكل ما أوتي من قوة. وبسرعة تبعته الراهبات حتى لم يبقَ على الفراش موطن قدم. بعضهن وقفن يثبن على المسكينة بأقدامهن، والبعض برُكَبهن، وأخريات يفتشن عن طريقة مختلفة يُزهقن بها روحَها ضرباً، ويسحقن جسدها دون أن يباشرْنه أو أن يرين أثر بطشهن. حينها كانت مشاعري أقوى من أن تجمح. أصبت بالذهول، لم أعد أعي ما أفعل. حاولت أن أتحدث إلى من بجانبي لأصرف وجهي عن المنظر البشع.
وبعد انقضاء خمس عشرة أو عشرين دقيقة، بعد أن افترضوا أن الضحية اختنقت، وتهشمت إلى حد الموت، توقف الأب بونين والراهبات عن دوسها ونزلن عن الفراش. كان الذي تحته ساكناً صامتاً! بدأوا يتضاحكون من الخواطر اللاإنسانية التي خطرت لبعضهم، وسخروا من مشاعري التي حاولت عبثاً أن أكتمها. وقال أحدهم معيراً إياها: «كان بإمكانها أن تصبح شهيدة كاثوليكية متميزة». وبعد قليل من الانتظار أزيل الفراش، وحُل الوثاق، وجُر الجثمان إلى أسفل. علمْتُ فيما بعد أنه أُخذ إلى القبو، وألقي في جبّ، وغطي بكمية كبيرة من الكلس، ثم صب عليه سائل لا أعلم خصائصه أو اسمه. غير أني رأيت هذا السائل يصب من زجاجات كبيرة، وسمعت أنه يستعمل في فرنسا ليمنع انبعاث الروائح من الأجداث. بعد مضي زمن على الحادثة، جئن بعض صديقات سان فرنسيس يسألن عنها، فقيل لهن: لقد ماتت ميتة الماجدات، بعد أن تمتمت ببعض الكلمات السماوية!).
هنا انتهت – أيها القارئ الكريم – قصة سان فرنسيس، لكنني لم أحدثك عن السبب الذي دعاها إلى التفكير في الفرار من الدير. تقول «مونك»: (علمت فور التحاقي بسلك الرهبنة أن المواليد[الذين وُلدوا من سفاح الكهنة داخل الدير] يقتلون في الدير في بعض الأحايين. وذات يوم، وبينما كنت في حجرة التمريض الخاصة بالراهبات، سنحَت فرصة، لم أسعَ إليها، لشهود أعمال من ذلك النوع، وكان ذلك بعد وفاة سان فرنسيس بشهر. إذ جيء بتوأمين غضين، أبناء سان كاترين، إلى الكاهن ليعمدهم. كنت حاضرة ذلك الطقس مع الراهبة العليا وعددٍ من الراهبات الكبيرات اللاتي لا أعرف أسماءهن، يدعون العمات أو الخالات.
كان الكاهن المباشر للطقوس هو الأب لاركين، عمدهما، ثم مسح الزيت على رأسيهما، كما هو المعتاد في طقس العماد، ثم أُخذا واحداً واحداً من قبل إحدى الراهبات الكبيرات.. وأمام الجميع، أحكمت يدها على فم الأول وأنفه لئلا يتنفس؛ ولما أزالتها بعد دقائق، كان الطفل قد لفظ أنفاسه. ثم فعلت بالآخر كما فعلت بالأول. لم يسمع لهما صوت، وأصبحا جثتين هامدتين. لم يُبدِ أحد ممن حضر أدنى قدرٍ من الاكتراث لما حدث، فالكل كان معتاداً على تلك المشاهد. أُخذ الجسدان الصغيران إلى القبو، وألقيا في ذلك الجب الذي ذكرْت، وغُطيا بالكلس).
هذا دين كهنة الروم، وهذه أخلاقهم! أليس هؤلاء هم أصحاب دواوين التحقيق (محاكم التفتيش)؟ إن ما تحاول أن تتستر عليه الكنيسة الرومية أعظم بكثير مما يعرضه الإعلام، إنها جرائم إبادة لا تغتفر.