لا شك في صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، بل إن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، أجمع عليه العلماء قديماً وحديثاً، فشريعة الإسلام هي خاتمة الشرائع، أوجب الله التحاكُمَ إليها، ونسخ بها ما قبلها، فقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] وقال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) رواه ابن ماجه، فلا بد أن تكون صلاحية الشريعة تلبي حاجات الناس، وتحقق مصالحهم في كل زمان ومكان، وقد حذَّر الله تعالى من العُدولِ عنها إلى غيرها، فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
ومما هو معلوم أن جوهر الإسلام هو الثبات، ونصوص الشريعة محدودة متناهية، اكتملت قبل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] بينما الإنسان حاجاته متجددة، فكيف للشريعة المحدودة أن تلبي هذه الحاجات المتجددة، من هنا كانت صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان مثار جدل بين علمائها ومفكريها، وكان من اللازم بيان ثوابت هذا الدين ومتغيراته، وما ينبغي أن لا نتزحزح عنه، وما يمكن من تعاليم الإسلام أن يتطور مع تطور الزمان وتغير المكان، وهذا ما نسعى لبيانه في هذا المقال.
لم يسبق أن واجهت أمة من الأمم، أو ديانة من الديانات، ما واجهه الإسلام من تشويه لحقيقته، ومحاولة صرفٍ لوجوه الناس عنه، سواء في ذلك من خصومها وأعدائها الحقيقيين، أو من أبنائها المحسوبين عليها، ممن يتكلمون لغتها ويدينون دينها، ويعيشون بين أحضانها. ونظرة فاحصة دقيقة في تاريخنا الطويل توقفنا على حجم المأساة في ذلك، وعلى شراسة الجهود التي يبذلها أعداء الإسلام في كل زمان ومكان لصد الناس عن دينهم، من خلال الوسائل المتعددة والأساليب المتنوعة، من أجل منع الإسلام من أن يكون فاعلاً يمارس حقه في حياة الناس ومعاشهم. ساعدهم في ذلك وسهّل لهم مهماتهم أتباعهم من أبناء هذه الأمة، الذين تربوا على موائد الغرب، وتتلمذوا لثقافته، وتقلبوا في نعيمه من خلال الدعم المادي والمعنوي لمواقفهم وأقوالهم، فكانت عداوتهم أشد من عداوة أسيادهم؛ لأنهم أعرف بأمتهم واحتياجاتها منهم، وأعرف بحقيقة مواطن الضعف والقوة فيها.
نشأ هذا الجيل من أمثال هؤلاء المثقفين وهم يجهلون تاريخ أمتهم، بقصد أو دون قصد، وينكرون حقها في أن تعيش حياة كريمة، ورفعوا شعارات واضحة الاتجاه والمعالم، ونادوا بضرورة إصلاح الأمة إصلاحاً يتماشى مع تطلعاتهم، إصلاحاً يقوم قبل كل شيء على طمس معالم التاريخ، المتمثل في أصالة القيم الإسلامية وعمق جذورها، إصلاحاً يُعلي من شأن الارتماء في أحضان حضارة الغرب.
من هنا نراهم في محاضراتهم وندواتهم يحاولون رسم صورة يقارنون فيها بين قيم الإسلام وبين الغرب، وهي في حقيقة الأمر مقارنة بين شيء يعرفونه تماماً وهو (حضارة الغرب بوجهها المشرق المضيء) وبين شيء يجهلونه وهو (تاريخ الإسلام وقيمه وتعاليمه بوجهه المظلم بحسب نظرتهم) وحين يقارن المرء بين أشياء يعلمها وأشياء يجهلها؛ لا شك أنه سيفضل الأشياء التي يعلمها على التي يجهلها، ويكون في جانب ما يعلم.
يطعن العلمانيون واللبراليون الذين تربوا في أحضان الغرب في صميم تعاليم الإسلام، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً؛ لأنهم يظنون أن الخلاص كل الخلاص يكمن فيما عند الغرب، ويعتمدون في هذا على مناهج التفكير الغربي في حل الأزمات، ويرفعون رايات الانعتاق من الدين، كما انعتق أهل الغرب من ديانتهم، وانتصروا عليها أيام جاليلو وغيره، ويريدون لهذه الأمة بكل ما فيها أن تلحق بحضارة الغرب الذي تقدم في العلم والتكنولوجيا، وتقدم كذلك في كل شؤون الحياة، فالغرب في نظرهم يستحق أن يُقلد، والأمة الإسلامة والعربية ينبغي لها أن تنبذ من الدين والأخلاق ما نبذ أولئك؛ لأن الدين كان معوقاً لهم عن تقدمهم، وما كان لهم أن يتقدموا لولا انسلاخهم وانعتاقهم منه، فإن أردنا أن نتقدم فما علينا إلا أن نفعل ما فعلوا، فهم يرون أن هذا الظلام الذي تعيشه الأمة، إنما هو بسبب تمسكها بدينها وإسلامها، وأن الخلاص يكمن في ترك هذا الدين والانعتاق منه!
هكذا ينظر هؤلاء إلى قضايا الأمة وجرحاتها، فهي في نظرهم أمة تسير في متاهات ليل مدلهم، ويظنون أن من واجبهم كأبناء لهذه الأمة أن يُنقذوها مما هي فيه، ويرون أن بريق الأمل الذي لمسوه وعايشوه في الغرب، وساروا خلفه مع أسيادهم وأساتذتهم كفيلٌ بأن يخرج الأمة العربية والإسلامية من التيه الذي تعيش فيه.
وليت هؤلاء وأسيادهم يعترفون بجهلهم بحقيقة الإسلام وقيمه، وليتهم لا يسمون جهلهم هذا علماً وتميزاً على غيرهم من أبناء أمتهم، فما من أحد من هؤلاء العلمانيين إلا ويظن نفسه أكثر عمقاً في فهم الإسلام، حتى من علماء الإسلام أنفسهم، ولذلك تجدهم يرددون بكل جرأة وصراحة: (هذا ليس من الدين في شيء) و(هذا شيء لا يقبله الإسلام)، و(هذا أمر الإسلام منه بريء) وأمثال هذه العبارات، التي يظن من يسمعها أنهم يعرفون الإسلام، ويعرفون ما يجب أن يكون عليه الإسلام، ولو جاءهم حقاً من هو على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان بغضهم له أشد، ومحاربتهم له أعظم.
وسبب هذا البغض وهذه الكراهية لأهذا الدين أنه يضر بمصالحهم، ويؤثر على أوضاعهم، فكلما استقامت الأمور، تضررت مصالح المنتفعين من بقاء الأحوال على ما هي عليه، وهؤلاء ينطلقون من هذا المنطلق في بغضهم لكل من يحمل الإسلام، ويسعى لتحقيق تعاليم الإسلام.
ليت هؤلاء يعترفون أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ويعترفون أن ما يرونه من أخطاء بعض المسلمين لا يعني أن مثل هذه الأخطاء هي أخطاء يتحملها الإسلام، وليتهم يعترفون أنهم يتمنون أن يرجع الإسلام إلى نصاعته وإشراقه، ويقرون بأن الإسلام فيه الخير الذي يحتاجون إليه، وأنه قادر على حل مشاكل الأمة وأزماتها، وليتهم يقولون ويصرحون بأنهم لو رؤوا الجانب المشرق للإسلام لقبلوه، وليتهم يعترفون بأن توجههم إلى الغرب كان بعد أن افتقدوا الإجابة الصحيحة من جانب الإسلام وعلماء الإسلام، أقول: لو قالوا ذلك واعترفوا به لاعترفنا بأنهم حريصون على صلاح أمتهم، وقلنا حينئذ أن الخطأ واللوم على علماء الإسلام، حيث عجزوا عن بيان حقائقه والدعوة إليه كما يفعل الآخرون، وقلنا: إن من أسباب ضياع هذا الدين جهل أبنائه وعجز علمائه.
أما المصيبة كل المصيبة فهي أن يقف هؤلاء بكل طاقاتهم في وجه الإسلام، يطعنون فيه ويشككون، وكأنهم أعرف الناس به، فهذه هي المأساة، وهذا هو الإشكال الحقيقي الذي نعيشه في أيامنا هذه.
يكثر على لسان الكثير من هؤلاء: إن الإسلام جاء في زمن غير زماننا، وإن الزمان قد تغير، وما صلح في ذلك الزمان لا يعني أنه يصلح في كل زمان، ويرون أن ما يصلح في زماننا هذا هو ما نراه قائماً في الغرب، من ابتعاد كامل عن إقامة الدين في حياة الناس.
نكتفي في في هذا المقام ببيان مسألتين مهمتين، هما: مسألة القضاء، ومسألة الشورى، كنموذج بين الثابت والمتغير فيهما، وما ينطبق عليهما ينطبق على غيرها من تعاليم الإسلام وأحكامه. يشهد كثير من المستشرقين وعلماء الغرب أن الشريعة الإسلامية هي أصلح نظام قانوني للحياة، قادر على الاستجابة لحاجات الناس المتجددة، ولو أردنا الاستشهاد بأقوال هؤلاء لضاق بنا المجال، وهي موجودة في مظانها من كتب الفكر والثقافة.
جاء الإسلام بمبادئ في مختلف شؤون الحياة هي الأقدر على تحقيق العدل والخير، والقابلة للتجديد والتغيير بما يحقق أحسن النتائج، فالإسلام يجعل العدل المطلق أصلاً من أصول الحياة، ويمنع الظلم والجور منعاً باتاً، حتى لو كان هذا الظلم في حق الأعداء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:108]. والله سبحانه يأمر بالعدل والإحسان، هذا من ناحية مبدأ العدل في ذاته، أما وسائل تحقيق العدل فهي غير محدودة، وهي قابلة للتجديد حسب الظروف، وحسب البيئة، والتجارب البشرية النافعة، فعدالة التقاضي قد تتحقق بوجود محكمة واحدة، وقد تتحقق بعدة درجات من المحاكم، وقد تتحقق بفصل السلطات الثلاث، ومن هنا فإن الوسائل متروكة للأصلح من تجارب البشرية، وللآراء المتجددة حسب الظروف المتجددة في كل زمان ومكان.
وكذلك الأمر بالنسبة لمسألة الشورى؛ فإن الإسلام يجعل الشورى أساساً من أسس الحكم، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]. وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]. ولكنه سبحانه ترك كيفية تحقيق الشورى على الوجه الأمثل لاجتهاد عباده وفقاً لظروف البيئة وتجارب الناس، في مثل هذا المجال، ويراعي المجتمع المسلم في ذلك ما يجد من تطورات، وما يبتكر من وسائل. وهناك قضايا كثيرة وضع الإسلام فيها مبادئ ثابتة، واجبة التطبيق، وترك للأمة أن تأخذ بما تراه مفيداً من الوسائل لتحقيق تلك المبادئ وتطبيقاتها.
من هنا نستطيع أن نقرر بكل وضوح: إن الإسلام جاء بمبادئ ثابتة، فيها كل ألوان السعادة التي يطلبها الإنسان، وبإمكان هذه التعاليم والقيم أن تأخذ بيده وتخلصه من أدران الشقاء، بيد أن الشرع الحكيم ترك للبشر الأساليب والوسائل التي يحققون من خلالها تلك المبادئ حسب ظروف حياتهم، وحسب التطورات والتغيرات التي يواجهونها في واقعهم، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].