روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله: "ما هذا اليوم الذي تصومون؟" فقالوا: "هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: نحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه].
عاشوراء هو اليوم العاشر من أيام شهر المحرم الحرام، وهو يوم من أيام الله تعالى، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، أوقع الله فيه آية من أعظم آياته، ومعجزة باهرة من معجزاته، تلك المعجزة هي نصر موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وإهلاك فرعون عليه لعائن الله ومن تبعه من المجرمين، فكان هذا اليوم آية وعبرة لكلا الفريقين جميعا: أهل الإيمان والإحسان، وأهل الكفران والإجرام والطغيان.
إن قصة موسى مع فرعون تصلح لأن يضرب بها المثل في كل وقت وحين ليتسلى بها المؤمنون وليحذر من مغبة ظلمهم المجرمون، فقد كان فرعون يمثل أعتى صور الطغيان من ناحية الدين والعقيدة، ومن ناحية الحكم والسياسة:
فمن ناحية الدين طغى وبغى وتخطى كل حدود البشر ليعلن على الناس ـ كذبا وزورا وبهتانا ـ أنه ربهم الأعلى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}(القصص:38)، وقال كما في سورة النازعات: {فكذب وعصى . ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال أنا ربكم الأعلى}(النازعات:21ـ24)..
وأما من ناحية الحكم والسياسة: فقد بلغ الغاية في العتو والظلم والإجرام وسحق الناس وقهرهم، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(القصص:4).
كما بلغ النهاية في إذلالهم واحتقارهم وتهميشهم، حين ألغى كل قيمة لهم فقال: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}(غافر:29).. فليس لأحد أن يفكر أو أن يتكلم أو ينطق بعد كلام فرعون ورأيه.
وعندما أرسل الله إليه نبيه موسى ليدله على الله ويذكره بأيامه ويدعوه للإيمان والإسلام ما زاده ذلك إلا طغيانا كبيرا، وسام المؤمنين سوء العذاب {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}(الأعراف:127)
وسنة الله تعالى فيمن هذا حاله، أنه يمهله ويريه من الآيات ما على مثله يؤمن كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، حتى إنه قد يتركه يصول ويجول ويظلم ويبغي ويتحكم ويسيطر ويقتل ويعتدي ويهلك الحرث والنسل، ليس إهمالا من الله، ولكنه الإمهال بحلم الله وحكمته إلى حين، والتي ربما تقتضي من البعض العجب.. ولكن الله تعالى لا يعجل لعجلة أحدكم.. فإذا جاء أمر الله أخذت قبضة جبار السماء متكبر الأرض أخذة العزيز المقتدر فلم يفلته كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ] قَال: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد}(رواه البخاري ومسلم).
أمر الله نبيه موسى أن يسري بقومه وينتقل بهم من هذه القرية الظالم أهلها فرارا بدينهم إلى مكان يستطيعون فيه أن يعبدوا ربهم ويظهروا دينهم ويؤدوا شعائرهم، فخرج بهم ليلا متوجها إلى الأرض المقدسة، فلما بلغ فرعون خروجهم أبى أن يتركهم ومنعه غروره بقوته وجبروته أن يتركهم حتى يفروا، وأبى إلا أن يقضي عليهم ويبيدهم {إن هؤلاء لشرذمة قليلون . وإنهم لنا لغائظون . وإنا لجميع حاذرون}(الشعراء:54ـ56).. فأتبع القوم بجنوده وأدركوهم بالفعل عند شاطئ البحر.
وبلغ الخوف بقوم موسى مداه، فلم يعد أمامهم أمل في النجاة، فالبحر من أمامهم، وفرعون وملؤه من ورائهم، فأيقنوا بالهلاك وقالوا لموسى إنا لمدركون، فقال قولة الواثق في ربه ونصرته وتأييده: {كلا إن معي ربي سيهدين}(الشعراء:62)، ولم تتأخر الإجابة كثيرا فكان الأمر بأعجب أمر {اضرب بعصاك البحر}(الشعراء:63) ليعلم أن حقيقة الفعل ومصدر النصر هو الواحد الأحد وليس للعبد إلا الأخذ بالسبب، فضرب البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.. وأنجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وحزبه ولتبقى آية لكل مؤمن موحد وظالم جاحد. {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}(يونس:92) يموت فرعون وتطفو جثته على الماء لتظل عبرة لكل من بعده وإلى أن يشاء الله..
وما هي من الظالمين ببعيد
وليس فرعون فقط هو الذي يكون مصيره بقدر ظلمه.. وإنما قراءة التاريخ تدل على أن هذا حال كل طاغية جبار متكبر في الأرض، يزين للناس الباطل ويشوه الحق، ويحكم أهواءه ويتسلط ببطشه وجبروته ويذيق الناس سوء العذاب، ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويفسد في الأرض وينتهك الحرمات، فلا بد له من نهاية محتومة وقدر نافذ {لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم}
إن معركة الحق مع الباطل معركة ممتدة عبر التاريخ، وما قصة موسى وفرعون إلا مثال لهذه المعركة، وموكب الحق على امتداد هذه المعركة وطولها يواجه الضلال والطغيان والاضطهاد والبغي والتهديد والتشريد، والمؤمنون وإن كانوا يعيشون الاضطهاد في أغلب الأحيان وفي أكثر البلدان، وتتحكم فيهم قوى الشر ويتكالب عليهم كل عدو لله ولدينه ولأتباعه فيسومونهم سوء العذاب، حتى إن حداءهم في أكثر الأحيان متى نصر الله؟ إلا أنهم مع هذا كله تأتيهم ذكرى عاشوراء وأمثالها فتذكرهم بأن نصر الله قريب، وأن الله معهم يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، ويعلم سرهم وجهرهم، وأنه لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وأنه كما كان حاضرا مع موسى وقومه في زمان فرعون فهو حاضر في كل وقت وحين وفي زمان كل فرعون، فتكون هذه الذكرى زاد الصمود، وأمل النصر، وفرحة الخلاص من الجبابرة مهما كانت قوتهم.. فلابد للحق أن يظهر مهما بدا ضعيفاً وأنصاره، ولابد للباطل أن يزهق مهما بلغت قوته وبطشه {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}(الأنبياء:18).
إهلاك الظالمين نعمة:
بقيت نقطة أخيرة.. وهي أن إهلاك الظالمين نعمة من الله تستحق الشكر وتستوجبه، فوجودهم في الأرض أصل كل مفسدة، وذهابهم عنها أو إخضاعهم لقوة الحق من أعظم المقاصد وأكبر المصالح ولذلك لما حكى الله إهلاكه للظالمين من الأقوام السابقين عقب على ذلك بحمد نفسه على نعمته وشكره على حكمته فقال: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}(الأنعام:45).. ومن هنا كان صيام نبي الله موسى لهذا اليوم شكرا لله على إنجائه وقومه وإهلاك فرعون وقومه.
ولما كان ركب الإيمان متواصلا في كل زمان، وكان المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، كنا نحن أمة الإسلام ونبيها عليه الصلاة والسلام أولى بموسى من اليهود الذين بدلوا دينه وغيروا شريعته، فكنا نحن أولى بصيام هذا اليوم وأحق بشكر الله على هذه النعمة الباهرة وهذه المعجزة الظاهرة، وبقي الأصل في مخالفة غيرنا وتميزنا نحن كأمة مسلمة؛ فصام نبينا عاشوراء تأدية لحق الشكر، وندب لصيام تاسوعاء إبقاء لأصل التميز... فصوموا تقبل الله منا ومنكم.