"الشهرة" من السلوكيات التي التبس بها كثير من المفاهيم المغلوطة ، ولحقها الذم في كل حال، رغم أنها ليست مذمومة على الإطلاق، فلولا المشاهير ما انتشر العلم ولا عم الفضل، ولا تناقلت الأجيال الخبرات والإنجازات، وإنما كان ذم الشهرة من جانب أثرها على القلب، لأن الإنسان كلما زادت شهرته، صارت التبعة على قلبه أكبر، من جهة المجاهدة على الإخلاص، والتجرد لله تعالى، ومكابدة القلب على تخليصه من حظوظه.
"إذا كانت الشهرة قد تكذب، فإن الأعمال لا تكذب " .. فكثير من العلماء الذين ذموا الشهرة كانوا أنفسهم من المشاهير الذين نشروا العلوم وخدموا البشرية ودعوا إلى الله تعالى، وعبدوا الخلق للحق جل وعلا، وقمعوا البدع وتصدوا للانحرافات والتجاوزات، وقديما قالوا: "من عرف الخلق جدير أن يتحامى، ومن عرف الحق عسير أن يتعامى".
قال الإمام النووي في كتاب القضاء من كتاب "روضة الطالبين": "وأما من يصلح - أي للقضاء- فله حالان، أحدهما: أن يتعين للقضاء، فيجب عليه القبول، ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الإمام إن كان خاملا، ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها، بل يلزمه أن يقبل ويحترز، فإن امتنع، عصا".
وقال أيضا: "وأما الطلب، فإن كان خامل الذكر، ولو تولى، اشتهر وانتفع الناس بعلمه، استحب له الطلب على الصحيح".
وكانت الشهرة بالعلم وطلب الحديث -الذي به تنقل السنن النبوية عبر الأجيال- أحد شروط قبول رواية الراوي، وإلا كان ذلك مما يقدح في صحة ما يرويه؛ لدخوله في عداد المجاهيل ومستوري الحال.
وكتب ابن المبارك إلي سفيان الثوري – رحمهم الله -: "بث علمك، واحذر الشهرة"
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه- أنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله، فيحبه الناس وفي رواية ( فيثني عليه الناس) فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك عاجل بشرى المؤمن".
قال النووي في شرحه: " قال العلماء معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له فيحببه إلى الخلق، ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم".
ولذلك كان ذم الشهرة يأتي لمن جعلها غاية لا وسيلة، وبذل ماء الوجه وقيم النفس وثوابت الدين من أجل التزلف من الناس أو ذوي سلطان. وهؤلاء الذين يأكلون على كل الموائد من أجل عرض زائل أو منصب فان أو وجاهة منقطعة بانقطاع الأجل، لا ينعمون بالشهرة الحقيقية، فسنة الله في الخلق أن الجزاء من جنس العمل، لذلك قال الفضيل بن عياض: "من أحبَّ أن يُذكر لم يذكر، ومن كره أن يُذكر ذُكر". وقيل لأبي بكر بن عياش: إن أناسا يجلسون في المسجد، ويُجلس إليهم؟ فقال: "من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم، وأهل البدع يمتون ويموت ذكرهم" ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه المقولة النفيسة: "لأن أهل السنة أحيَّوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وأهل البدع شنأوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.
وعلى هذا الأصل تفهم عبارات السلف الصالح ومواقفهم التي تناولت موضوع الشهرة، فما زال الصادقون من العُلَمَاء والصالحين يكرهون الشهرة ويتباعدون عن أسبابها، ويحبون الخمول، ويجتهدون عَلَى حصوله خشية الرياء وحملا للنفس على التواضع لا تنكرا لنشر الخير وزهدا في بذل المعروف.
قال ابن مسعود: "كونوا ينابيع العِلْم مصابيح الظلام، جُدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض".
وقال أحمد بن أبي الحواري: "من عبد الله على المحبة لا يحب أن يرى خدمته سوى محبوبه".....
وكان أيوب السختياني يقول: ما صدق عبدٌ إلا أَحَبّ أن لا يُشعر بمكانه. ولما اشتهر بالبصرة كان إذا خرج إِلَى موضع يتحرى المشي في الطرقان الخالية، ويجتنب سلوك الأسواق والمواضع التي يعرف فيها.
وكان سفيان الثوري لما اشتهر يقول: "وددت أن يدي قُطعت من إبطي، وأني لم أشتهر ولم أُعرف".
ولما اشتهر ذكر الإمام أحمد، اشتد غمه وحزنه، وكثر لزومه لمنزله، وقل خروجه في الجنائز وغيرها، خشية اجتماع الناس عليه. وكان يقول: "طوبى لمن أخمل الله ذكره". وكان يقول: "لو قدرت عَلَى الخروج من هذه المدينة - يعني بغداد- لفعلت حتى لا أذكر عند هؤلاء" يعني الملوك. وقال لتلميذه المروذي: "قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني قد بليت بالشهرة". وكان إذا مشي معه أحد من أقاربه يعرفه الناس، أبعده عنه لئلا يعرف به، وكان لا يدع أحدًا يمشي معه في الطريق ولا يتبعه، فإن تبعه أحد وقف حتى ينصرف الذي معه.
ورأى عمر قومًا يتبعون رجلاً فعلاهم بالدَّرة وقال: "إن خفق النعال خلف الأحمق، قل ما يُبقي من دينه".
ومشى قومٌ مع معروف إِلَى بيته، فلما دخل قال لهم: مشيُنا هذا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الخبر: "أنَّه فتنة للمتبوع مذلة للتابع".
وكان علقمة يكثر الجلوس في بيته فقِيلَ لَهُ: ألا تخرج فتحدث الناس. فَقَالَ: أكره أن يوطأ عقبي ويقال: هذا علقمة، هذا علقمة.
ودخل ابن محيريز على رجل من البزازين يشتري شيئا، فقال له رجل حاضر: أتعرف هذا؟ هذا ابن محيريز، فقال ابن محيريز : "إنما جئنا لنشتري بدراهمنا ليس بديننا".
ودخلَ رجلٌ عَلَى داودَ الطائيّ فسألهُ ما جاء به؟ فَقَالَ: جئت أزورك. فَقَالَ: أمَّا أنتَ فقد أصبتَ خيرًا حيثُ زُرتَ في الله، ولكن أنا أنظرُ ماذا لقيتُ غدًا إذا قيل لي: من أنتَ حتَّى تُزارَ؟ من الزهَّادِ أنتَ؟ لَا والله. من العُبَّادِ أنتَ؟ لَا واللَّه. من الصالحينَ أنت؟ لَا واللَّه .. وَعدَّدَ خصالَ الخيرِ عَلَى هذا الوجهِ، ثُمَّ جعَل يُوبِّخُ نفسُه، فيقول: "يا دَاودُ! كنتَ في الشَّبيبةِ فاسقًا، فلمَّا شِبتَ صِرتَ مُرَائِيًا، والمُرائي أشرٌّ من الفَاسقِ".
كم بين حال هؤلاء الصادقين وبين من يسعى في ظهوره بكل طريق وسبيل، فهو يتنقل بين الفضائيات ويتصدر المحافل مدعيا أنه خبير أو محلل أو مفكر أو باحث أو فقيه، وتارة أخرى بإظهارِ الأعمالِ والأقوالِ والكراماتِ ليزار وتُلتمَسَ بركتُهُ ودُعاؤُه، وتقبيل يدُهُ وهُو مُحبٌّ لذلك ويُقِيمُ عليهِ ويفرح به أو يسعى في أسبابه، لكن إذا حقت الحقائق تبين الخالص من البهرج، والغث من السمين، والجيد من الردئ.
وها هنا نُكتةٌ دقيقة، وهي أن الإنسانَ قد يذُمُّ نفسهُ يين الناسِ يُريدُ بذلك أن يُرِي أَنه مُتواضعٌ عندَ نفسه، فيرتفعُ بذلكَ عندَهُم ويمدحُونَهُ بهِ، وهذا من دَقائقِ أبوابِ الرِّياءِ وقد نَبَّه عليهِ السلفُ الصالحُ.
قال مُطَرَّفُ بنُ عبدِ الله بن الشِّخِّير: كَفى بالنفس إِطراءً أَن تَذُمَّهَا عَلَى الملأ، كأنك تُريدُ بذمِّها زينتَهَا، وذلك عند الله سَفَهٌ.
إن الشهرة الزائفة قاصمة الظهر وفانية المجد ومهلكة الأمم والجماعات، وهي أحد المصائب التي يفرح بها العدو، وأعظم المكائد التي يسعها إليها الحاقدون والمتربصون لهذه الأمة.
- الكاتب:
د/ خالد سعد النجار لـــ \\\" إسلام ويب \\\" - التصنيف:
ثقافة و فكر