حين أكلا من الشجرة أدركا فوراً حجم الخطأ الذي أغراهم به إبليس، ولذا أسرعا في الهروب من المكان، وصارت الشجرة بعيدة عنهم، فكان الله يقول لهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}
(تلك) إشارة للبعيد بينما قال قبل الذنب {هَذِهِ الشَّجَرَةَ}
تصرُّف عفوي معبر عن الحياء من الله الذي حذَّرهم أشد التحذير من الفعل ومن وسوسة الشيطان، وها هم يقعون في النهي مع كونهم سمعوا التحذير مباشرة ووعوا التهديد بسوء العاقبة إن وقعوا.
العتاب الربَّاني كان سمحاً لطيفا حتى بعد الاقتراف، وجاء بصيغة استفهام تقريري تقريعي؛ لقد نهيتكم عن مجرد الاقتراب من الشجرة وأخبرتكم بعداوة الشيطان.
عتاب محبب يؤكد لهما أن الباب لم يغلق، وأن الرحمة أوسع وها هما ينتظران التوجيه بعد النكسة المؤلمة، وقد توازن الأمر واعتدل ما بين ألم المعصية وأمل التوبة.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}، كلمات قليلة سهلة واضحة مباشرة، والتلقِّي يوحي بالانتظار والترقب.
من غير تطويل ولا إبطاء ولا شروط توبة ناجزة قاطعة، ولذا استخدم حرف الفاء وهو للتعقيب السريع.
جميل أن يكون التحذير قبل الخطأ قوياً، والعتاب بعده لطيفاً؛ خاصة لمن استوعب الدرس، ويا لها من رحمة أن السيئات التي تؤلمنا ذكراها نجدها في موازيننا حسنات يوم البعث!
حين يطلب الناس منك الصفح فعليك أن تسرع بالاستجابة، وتغالب نفسك، وتنسى المظلمة، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وأنت ذو الخطأ الذي يحتاج أن يغفر الله له وأن يغفر له الناس.
الكلمات كانت أقوالاً صادقة من سويداء القلب، معجونة بدمع العين السخين، ولا أحب إلى الله من دمعة تائب، ولذا {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ، واعترفا دون أن يعتذرا بإغراء الشيطان، وطلبا الصفح والمغفرة؛ لئلا يلحقا بالأقوام الظالمة من قبلهم، فقد كان على الأرض أقوام ظالمون أُخذوا بذنوبهم .
والكلمات كانت أفعالاً؛ كالتي ابتلى الله بها ابراهيم؛ تتعلق بالطهارة، وملازمة الفطرة، وحفظ الحياة، والحقوق، والبيئة، وتجنب طاعة الشياطين وأعوانهم.
ولذا قيل إن آدم أول من حدَّ حدود الحرم، وسنَّ لذريته تقديس الأرض المباركة بمكة وما حولها، وتجنب قطع شجرها وتنفير صيدها، ولا غرابة فمهمته الخلافة في الأرض واستصلاحها، وكان من هدي النبي -عليه السلام- أن :« مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ».
من كمال الإحسان أن تحسن لمن أساء إليك، وتقابل أقواله وأفعاله السيئة بالعفو والمعروف.
خطيئة الأبوين واحدة وكانت في الجنة لئلا يخطئا على الأرض، فالأرض لهما موطن ولاية وسلطة وقداسة « وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا »، ربما يكون الخطأ رحمة يحمل على السداد أو يربي على التواضع أو يحفزه لأعمال صالحة ما كنت لتفعلها لولاه.
لا تزال كلمات الأبوين المنكسرة المتوجعة تذكِّرنا بالطريق الآمن إلى الله كلما حاصرنا الذنب!
ومنها نتعلم ألا نيأس ولا نستسلم للخطأ ولو تكرر أو أصبح إدماناً يلح علينا، فالذي قدَّر الذنب شرع التوبة وسهَّل أسبابها ويسَّر طريقها وجعله موصولاً به دون واسطة.
كان اعتذارهما معلناً كما الخطأ، وتتكرر القصة في القرآن سبع مرات تؤكد حصول الذنب وانكشاف العورة وحالة الركض؛ بحثاً عن ورق شجر يواريها لنتعلم ألا أحد بمعزل عن احتمال الخطأ، وأن الصدق ليس هو ادّعاء الطهورية والتظاهر بالصفاء بل الاعتذار والندم والتكفير عن الذنب بما يناسبه والخوف من الله لا من الناس مع إدراك أن المجاهرة بالذنب ذنب آخر واستخفاف وإفساد للبيئة العامة.
بعد التوبة جاءت النبوة والكرامة والاصطفاء، فكان بعد التوبة خيراً منه قبل الذنب، فلا وجه للتعيير إذاً، توبة صادقة عميقة، وبعض الذرية يتوب ليستعيد مكانته الاجتماعية التي فقدها بسبب الخطأ وليس له من التوبة إلا صورتها الظاهرة المتعلقة باللباس أو الشكل الظاهر وربما تسرَّع في التصدر والرئاسة والوعظ وصار يردد (أنا كنت أنا كنت..)، أو حمله الهروب من شجرة المعصية إلى السقوط في أحضان معصية أعظم؛ كسفك الدم أو الجرأة على العباد أو التعصب أو التكفير.
اشتركا معاً في الذنب، فصار خطيئة جماعية أغرى كل منهما صاحبه بها، وحسَّنها له، فكان جميلاً أن التوبة جماعية بلسان واحد {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}
ذنوبنا الجماعية وجنايتنا على الأرض، وإخلالنا بمهمة الخلافة الرشيدة أورث تخلفاً حضارياً وجهلاً واختلافاً وعنصرية وركاماً من العادات الفكرية والشعورية والسلوكية تجعلنا ندور في حلقة مفرغة، ولا نتلمّس الطريق القاصد إلى انتظام مسؤوليتنا على هذه الأرض باعتبارنا بشراً أو باعتبارنا مسلمين.
وحدهما تحملا مسؤولية ذنبهما، وذاقا مرارة الهبوط، ومعاناة الحياة المختلفة على الأرض، نحن لم نرث خطيئتهما، ورثنا الطبع القابل للخير والشر، وهو سر إنسانيتنا وتكليفنا.
منهم تعلمنا أن الخطيئة ليست حالاً دائمة بل لحظة عابرة يفيق منها القلب وهو أرق وأصفى.
وتعلمنا أن التوبة تفتقر إلى مناجاة وندم واعتراف بين يدي الله، وأن الدموع الحقيقية هي زيت سراجها.
و تعلمنا أن الهبوط للأرض ليس عقاباً، وكيف يعاقبهم وقد سامحهم، ولذا قال ابن عباس: (إن الله أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه)، وعنى بذلك قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} فهو مخلوق للأرض ليعمرها.
وتعلمنا أن من أعظم الخطايا الفساد في الأرض وسفك الدماء، وها نحن الذرية نشهد تصاعداً في الفساد البيئي والمالي والسياسي والأخلاقي، وحالة من التظالم والقتل الأعمى وجله في بلاد الأمة الخاتمة؛ التي جاء نبيها بتوفير الحقوق وتحريم العقوق!
بماذا عليَّ أن أعترف الآن؟
يصفوننا بأننا دعاة وطلبة علم وليس الشأن هنا أن أكشف ستر الله عليَّ فيما عثرت بيني وبين ربي فيما أغلقت عليه بابي أو تواريت عن أحبابي.. ما يحتاج إلى الاعتراف هو أن العيش الطويل مع الناس والأتباع خاصة ضخَّم لديَّ اعتبار ما يقولون، وما يؤملون، ويتوقعون، وينتظرون.. فقلَّت العفوية وكثرت المجاملة وملاحظة الناس، وضعف الصدق وتلاشى الإخلاص، وأصبح الهم ماذا يقول الناس عنا بماذا سيعلقون على مواقفنا؟ .. ولعل هذا الاعتراف ذاته لا يبتعد عن هذا السياق.. كيف سيعلق عليه الصديق المادح وكيف سيستغله الخصم الكاشح؟
ما يحتاج إلى الاعتراف هو أن يصبح همي كم بلغ عدد متابعي؟ وكم بيع من كتابي؟ وكم بلغ (الرتويت)؟ ومن سبقته؟ ومن سبقني؟ على أنه سيأتي يوم بدوننا، ولعله سيكون أفضل -بحول الله- وسيطوى خبرنا، ونكون نقطاً صغيرة لا ترى بالقياس لأعلام عظام، وأئمة صدق وإخلاص، ورجال علم ودعوة وتضحية وجهاد.. فاللهم إني أعوذ بك أن أكون في عيون الناس كبيراً وأكون عندك صغيراً يا أرحم الراحمين
- الكاتب:
د. سلمان بن فهد العودة - التصنيف:
ثقافة و فكر