في شوال من السنة العاشرة بعد بدء نزول الوحي خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف، راجياً أن تكون أحسن حالاً من مكة، وأن يجد من أهلها نصرة لله ورسوله، فخرج على قدميه الشريفتين ذهابا وإيابا، والطائف تبعد عن مكةَ أكثر من مائة كيلو مترًا، وكان في صحبته زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، ولم يترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدًا إلا ودعاه إلى الإسلام، فتطاولوا عليه وطردوه، ثم أغروا به سفهاءهم فلاحقوه وهو يخرج من الطائف يسبّونه، ويرمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه، وحاول زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ أن يحميه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أصيب في رأسه، ولم يزل السفهاء يرمونهما بالحجارة حتى لجأ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزيد ـ رضي الله عنه ـ إلى بستان لعتبة و شيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف، فرجعوا عنهما .
رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف حزينًا مهمومًا بسبب إعراض أهلها عن دعوته، وما ألحقوه به من أذىً، ولم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضل أن يدخلها في جوار بعض رجالها، خاصة أنه حين خرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف عزمت قريش على منعه من العودة إلى مكة، حتى لا يجد مكانا يؤيه، أو أناسا يحمونه .
قال ابن القيم: " فقال له زيد: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ ـ يعني قريشا ـ ، قال: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه، فلما انتهى إلى مكة، أرسل رجلا من خزاعة إلى مُطْعَم بن عدي: أدخل في جوارك؟، فقال: نعم، فدعا بنيه وقومه، وقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرتُ محمداً، فدخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم على راحلته، فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الركن، فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته ومطعم وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته ".
قال ابن الأثير: " وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع؟، قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت " .
الوفاء النبوي :
لقد ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أروع الأمثلة في حفظ الجميل والوفاء لصاحبه، فبالرغم من أن المطعم بن عدي مات كافرا، وأن قبوله لإجارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت لها جذور تاريخية وقبلية وهي من عاداتهم، إذ كانت العرب في الجاهلية يمنعون مَنْ حالَفهم أو استَجار بهم ممَّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، إلا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظل حافظًاً لجميل المطعم بن عدي وموقفه معه حتى بعد موته على الكفر قبل غزوة بدر، فلما أسَرَ المسلمون في غزوة بدر سبعين من المشركين، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني (طلب الشفاعة) في هؤلاء النتنى لتركتهم له ) رواه البخاري، في رواية أبي داود: ( لأطلقتهم له ) .
قال الخطابي: " في الحديث إِطْلَاق الْأَسير والْمَنّ عليه مِنْ غَيْر فِدَاء " .
وقال ابن حجر في الفتح: " بأنَّ ذلك مكافأة له على يدٍ كانت له عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهي إمَّا مَا وقع من المطعم حين رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، أو كونه من أشدِّ من قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب ".
وهذا أبو البختري الذي كان في صف المشركين يوم بدر، فنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتله، فقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( من لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله )، ثم أورد البيهقي قول ابن إسحاق :" وإنما نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بمكة وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة " .
وها هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرد الجميل لعمه أبي طالب الذي تكفل بتربيته بعد وفاة جده عبد المطلب, فلم ينس له ذلك رغم موته على الكفر، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: ( قلت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) رواه البخاري .
وقد أعطى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمه العباس قميصه لما جئ به أسيراً يوم بدر، رداً للجميل ووفاء لمواقفه معه وبخاصة في بيعة العقبة .
كما ضرب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ المثال في الوفاء لزوجته خديجة ـ رضي الله عنها ـ وعدم نسيانه لجميلها ومعروفها معه، فهي التي واسته ووقفت بجواره بنفسها ومالها, فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيرا منها، فغضب ثم قال: والله ما أبدلني خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها ، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بِسُبَّة أبدا ) رواه أحمد .
وروى والحاكم وأقرّه الذهبي عن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ قالت: ( جاءت عجوز إلى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وهو عندي، فقال لها: من أنت؟، فقالت: أنا جثامة المزنيّة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم؟ ،كيف حالكم؟، كيف كنتم بعدنا؟، قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، فلما خرجت، قلت: يا رسول اللَّه، تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟، فقال: إنّها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان ) .
ولم ينس ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضل أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ومواقفه الطيبة معه فيقول: ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافيه الله بها يوم القيامة ) رواه الترمذي .
ما مِنْ خُلُقٍ عظيم أو صفة طيبة تُحْمد إلا وله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منها أحسنها، ولا مِنْ صفة تُعاب إلا وهو أبعد الناس عنها، ولن تجد في كتب التاريخ والسِيَّر إلى يوم القيامة أحدا يضاهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كمال خُلقه وعظيم وفائه، حتى أقرَّ بفضله ووفائه من لم يؤمن به، فقال مكرز بن حفص: " يا محمد، ما عُرِفتَ بالغدر صغيرا ولا كبيرا، بل عُرِفتَ بالبر والوفا "، ولما سأل هرقل أبا سفيان وهو عدو لرسول الله حينئذ: " أيغدر محمد؟، فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر " .