نعم الله تعالى على تعددها يمكن أن يجمعها نعمتان عظيمتان: نعمة خلق وإيجاد.. ونعمة هداية وإرشاد.
فأولهما نعمة الخلق والإيجاد: وهي أن الله امتن علينا فأوجدنا من العدم، وخلقنا بعد موات وأنشأنا من تراب ثم من نطفة.. {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا}، {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} الآيات... وإتماما لهذه النعمة سخر لنا ما في السموات وما في الأرض وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.
ثم أتم الله علينا هذه النعمة بنعمة أعظم منها وهي نعمة الهداية والإرشاد.. بأن أرسل إلينا الرسل فهدونا إليه، ودلونا عليه وعرفونا مطلوبه منا، ومقصده من وراء خلقنا.. وعلمونا كيفية الوصول إليه، ومالنا بعد القدوم عليه.
وهذه النعمة وإن كانت متممة للأولى إلا إنها أعظم منها؛ لأن غايتنا إذا لم يتفضل علينا بالوجود أن نكون عدما، أما إن أوجدنا ولم يتفضل علينا بالهداية فهو البلاء والشقاء الأبدي.. وقد قال السفاريني رحمه الله:
ومن عـظـيم مــنـة الســــلام .. .. ولطـفه بسـائر الأنام
أن أرشد الخلق إلى الوصول .. .. مبينا للحق بالرسول
وهذه النعمة ـ أعني نعمة الهداية والإرشاد ـ قد وقف في وجهها، وحال دون وصولها إلى الناس ثلاثة أصناف من البشر ذكرهم الإمام عبد الله بن المبارك في أبيات له أحلى من العسل وأصفى من الذهب فقال:
رأيت الذنـوب تميت القلوب .. .. وقد يورث الـذل إدمانها
وترك الذنـوب حياة القلوب .. .. وخير لنفسك عصــيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك .. .. وأحـبار سـوء ورهبانها
فباعوا النفوس ولم يربحوا.. .. ولم تغل في البيع أثمانها
لقــد رتــع القــوم في جيفـة .. .. يبين لـذي العقل أنتانها
فبين أن الذنوب تقتل القلب وتورث الذل، وأن تركها فيه العز وحياة القلب، وأن من أشكل عليه أمران فليختر أبعدهما عن هوى النفس؛ فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي..
ثم أخبر أن فساد الدين، وإضلال الناس عنه إنما يأتي من جهات ثلاث:
الأولى: حكام ظالمون جائرون
والثانية: علماء فاجرون فاسقون
والثالثة: عباد جاهلون غافلون
حكام ظالمون جائرون:
ولا شك أنه كان هناك ملوك وأمراء صالحون نصروا الدين ودافعوا عنه، وأبلوا فيه بلاء حسنا، ولكننا هنا نتكلم عن الذين حاربوا الدين وأفسدوا في الأرض باسم صلاحها.. وهؤلاء يمكن تقسيمهم إلى فريقين أو قسمين:
قسم كفار أصلا: فلا يستغرب منهم محاربة الدين وأهله، لأن عقيدتهم تحملهم على ذلك {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}
وهذا البلاء يقاسيه المسلمون في البلاد الكافرة والتي حكامها كفرة ظلمة، فيقاسي المسلمون منهم الويلات ويتعرضون للأهوال ليتركوا دينهم وينسلخوا من هويتهم: كمسلمي بورما، وتركستان الشرقية في الصين، وما لاقاه الشيشانيون من الاتحاد السوفيتي، وكذلك مسلمو الفلبين من حكامهم النصارى، ومسلمو كوسوفا وما لاقوه من الصرب والكروات.
وربما كان هؤلاء الحكام حكاما كفارا يحكمون بلاد المسلمين بعد احتلالها، كما حدث في أكثر بلاد العرب والإسلام بعد سقوط الخلافة: كالغزو الفرنسي لمصر وبعده الاحتلال الإنجليزي، والغزو الإيطالي لليبيا، والاحتلال الفرنسي للجزائر وغير ذلك من ألوان الاستعمار والاحتلال والذي راح ضحيته ملايين من البشر وذاق عشرات الملايين الويلات والمرارات دفاعا عن دينهم وهويتهم.
القسم الثاني: محاربون بالوكالة
فبعد الاحتلال ذهب هؤلاء الغاصبون ولكنهم تركوا في معظم البلدان الإسلامية مندوبين عنهم، أقوام من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ولكنهم أشد علينا وطأة من المحتلين الكفار الأصليين، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها.
أصلان رئيسان لمحاربة الدين:
وهؤلاء وأولئك صدوا عن سبيل الله، وعملوا على منع وصول الهداية إلى الخلق بأمور عدة.. وشملت مواجهتهم للإسلام بندين متداخلين:
الأول: محو فكرة ارتباط الإسلام بالسياسة.
والثاني: استئصال الوجود الإسلامي الحقيقي.
وقد أخذ تنفيذ هذين البندين أشكالا منظمة جدا وبتدبير شيطاني ومكر كبار.. تمثل فيما يلي:
أولا: إبعاد الدين عن السياسة
وذلك بفصل الدين عن التواجد في المشهد السياسي، وتجريم تدخل الدين في حياة الناس السياسية تحت القاعدة الكاذبة الخاطئة "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة". ومنع العلماء والدعاة من التحدث في هذا الجانب، ومعاقبة من يخالف ذلك بأقصى عقوبة ولو بالتضييق أو السجن أو حتى بالقتل، كما حدث في طول التاريخ وعرضه.
وكان ضمن هذا الإبعاد استبدال الشريعة المنزلة بالشريعة المبدلة، والحكم بالقوانين الوضعية بدلا من الشريعة الإسلامية، واستبدال المحاكم الشرعية بالمحاكم العدلية، مما أدى في النهاية إلى نبذ الشريعة عن الحكم وحجب الناس عنها.
ثانيا: منع الأحزاب الدينية بكل أشكالها وألوانها
وذلك لمنع المتدينين من دخول المعترك السياسي ولتبقى جماعاتهم جماعات محظورة غير مرغوب فيها رسميا ليمكن ملاحقتهم دون أي موانع قانونية، وليتأكد السادة أن الإسلاميين لا يمكن أن يصلوا إلى سدة الحكم بعد إغلاق الباب أمام ما يمكن أن يمثلهم أو يتحدث باسمهم. ولو حدث خطأ ووصلوا إلى سدة الحكم عن طريق ديمقراطي فيجب إسقاطهم مباشرة والانقلاب عليهم ولو بالقوة وعدم تمكينهم من حكم البلاد كما حدث في بعض بلداننا العربية التي وصل فيها الإسلاميون للحكم عن طريق الانتخابات الديمقراطية والتي صوت لصالحها معظم الشعب.
ثالثا: محاربة الفكر الديني الفعال:
وكانت أكبر الوسائل وأنجعها لذلك هو تغيير المناهج الدراسية ابتداء من الروضة وانتهاء بالجامعة، فرفع من المناهج كل ما يتعلق بالعقائد عامة والجهاد خاصة من جميع مناهج المدارس الخاضعة للدولة، وأما في الجامعات والمعاهد الدينية فدجن التعليم الديني تماما، وتغيرت مناهجه واختيرت قياداته بعناية حتى يخرُج لنا في النهاية مسخٌ لا روح فيه، وخريجون لا يصلحون لاعتلاء منبر أو إلقاء محاضرة أو درس علم محترم، مع ملاحقة النابغين أو الخارجين عن الخط المرسوم.
رابعا: فتح الباب للاستهزاء بالشريعة ومهاجمة الدين:
وهذا من أجل تهوين شرع الله في قلوب الناس، وتشجيع لهم على الطعن في الكتاب والسنة والشرع برمته، ففي وسائل الإعلام تتناول أحكام الشريعة بالتهكم والاستهزاء، بعد أن كانوا يتكلمون عنها قديما بالغمز واللمز من بعيد، وصار الطعن في الأصول والثوابت بعد أن كان في مسائل بعيدة عن الأصول، حتى أنه أصبح في بلد مسلم أناس يخرجون في القنوات لا يهاجمون الشريعة فحسب بل يسبون دين الله علانية دون رادع أو مانع أو رقيب أو محاسب، في الوقت الذي لا يجرؤ أحد أن يلمز ولو من بعيد في قائد أو سياسي حتى صدق فينا قول القائل:
يقاد للسجن من سب الزعيم ومن .. .. سب الإله فكل الناس أحرار
ووصل الحال إلى أن صار الزنا حلالا بالتراضي أو إذا أقره القانون، وأن التعدد ممنوع بحكم القانون؛ فصارت الخليلة حلالا، والحليلة حراما.
وتطاولت الصحف والقنوات على مسائل مقطوع بها كالميراث، والحجاب، والحدود الشرعية، واستهزأ البعض بآيات القرآن علنا فضلا عن الأحاديث النبوية. وصارت هناك دعوات عامة بفصل الدين عن الحياة وعلمنة الدولة عيانا بيانا، ونداءات بإعدام الإسلام السياسي أو كما يسمونه كذلك.
وأما ما يتعلق بالشق الثاني: وهو تصفية الوجود الديني فكان كالتالي:
أولا: تجفيف منابع الدعوة ومصادرة أموالها
وهو مما اتفق عليه محاربو الدين في كل عصر وحين، فإغلاق كل ما يمكن أن يتعلم الناس منه دينهم، أو يساعدهم على فهمه، أو ما يدعوهم إليه: كالتحري الدقيق عن مصادر الكتب والنشرات والمقالات الإسلامية في كل مكان ثم مصادرتها وإعدامها. وغلق المعاهد الشرعية، والجمعيات الأهلية ومصادرة أموالها وأملاكها، ومنع الدعاة من الخطابة وإلقاء الدروس وتقييد حركتهم في الانتقال بين ربوع البلاد إلا بإذن لا يأتي أبدا، حتى حلقات تحفيظ القرآن إما أن تغلق تماما وإما أن تكون عليها مراقبة صارمة لإغلاق الباب أمام كل من يقترب من أصحاب الدين أو الداعين إلى الله
ثانيا: تشويه صورة أهل التدين ونبذهم بأقبح الأوصاف
والغرض من ذلك إقامة حواجز بين العاملين في حقل الدعوة والدين وبين أبناء الوطن للحد من تأثيرهم أو قبول الناس منهم، فتقوم آلة النظام باتهامهم بأشنع التهم ووصفهم بأقبح وصف.. كالإرهاب والتطرف والتخلف والرجعية وعدم الوطنية وربما التخابر مع دول غير صديقة.. هذا إذا أفلتوا من الحبس أو القتل..
وما يلقاه المسلم الملتزم تلقاه المرأة المسلمة ـ وخصوصا المحجبات منهن ـ حتى إن المرأة المحجبة في بعض بلادنا كانت لا تستطيع أن تمشي بحجابها في الشارع، وفي بعض البلدان كانت تمنع من دخول المدارس والجامعات، وفي بعضها منعت بعض مدرسات الجامعات من دخول الجامعة لإعطاء دروسها لأنها فقط تغطي رأسها.. ناهيك عن الاستهزاء بالحجاب والطعن في العفاف والشرف أو الوصف بأنها فيها كذا وكذا ولذا لا تستطيع أن تظهر وجهها أو تفصح عن نفسها.. حتى كتب بعضهم: "إنما تستر نفسها ووجهها الزانية العاهرة، أما الشريفة فهي واثقة من نفسها فلا تحتاج لأن تغطي وجهها"!!.
هذا في الوقت الذي تترك فيه السافرات دون أي تدخل مهما كان شكل الزي أو مدى ما يظهر من العورات ويكشف من السوءات بدعوى أن هذه حرية شخصية!!! فالتعري حرية شخصية والحجاب تخلف ورجعية.. ياللعجب!!.
ثالثا: التضييق على المؤمنين والمؤمنات
في أرزاقهم وأعمالهم وتوظيفهم، وتجفيف منابع العمل أمامهم خصوصا في المجالات العلمية والعملية، وحرمانهم قطعيا وأقربائهم من الانخراط في السلك العسكري أو البوليسي أو السياسي.
رابعا: عزل المتدينين عن التجمعات والمواقع المؤثرة
فيمنع أهل التدين عمومًا عن أي تنظيمات أو تجمعات حكومية أو عمالية أو طلابية، مع تضييق فرص الظهور للجماهير أمامهم سواء في التجمعات الشعبية أو حتى في المحاضرات والدروس العامة، ومن خلال الخطب المنبرية، ومنع الدعاة من الظهور في الإعلام المسموع أو المقروء، بل وإغلاق جميع القنوات التي تتحدث باسم الدين أو تدعو إليه.
خامسا: دوام ملاحقتهم وتهديدهم وتعريضهم للاعتقال
حتى ينفضوا عن الدين، أو لإفساد أسرهم ونسائهم وبناتهم بإبعاد ذويهم عنهم؛ مما يصدع هذه الأسر وربما يجر نساءها إلى الانحلال والفساد بسبب الحاجة أو بعد الرقيب والمربي.
إنها أفكار شيطانية لا يهتدي إليها إلا من غضب الله عليه وصار من جند إبليس أو فاقه كما قيل :
وكنت امرءًا من جند إبليس فارتقى .. .. بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فإن مـات قـبلي كـنت أحــسن بعـده .. .. طــرائق فســق ليس يحســنها بعـــدي
ولكن الله لهم بالمرصاد، وهو صاحب الدين وناصره، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.