جَرْحُ الرواة وتعديلهم قائم على اجتهاد النقاد، وكل ما رجع إلى الاجتهاد فهو مظنة للاختلاف، وذلك اختلافٌ جائزٌ توجبه سنة التفاوت في العلم والفهم، قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76).
يقول الإمام المنذري موضحا طبيعة الخلاف في الجرح والتعديل: "اختلاف هؤلاء كاختلاف الفقهاء، كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شُهِدَ عنده بجرح شخص، اجتهد في أن ذلك القدر مؤثر أم لا، وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص ونقل إليه فيه جرح، اجتهد فيه هل هو مؤثر أم لا".
على أن الاختلاف في هذا الباب ليس واقعاً في جميع الرواة، بل منهم خلق كثير ثقات عدول متفق على قبولهم والاحتجاج بهم، كما فيهم مجروحون متفق على جرحهم، لا يُحتج بهم، بل لا يعتبر بكثير منهم، وفيهم من هو مسكوت عن أمره، وفيهم المختلف فيه.
والشأن ابتداءً وجوب اعتبار إعمال النصين أو النصوص التي ظاهرها التعارض بالاجتهاد في التوفيق بينهما دون تكلف، وذلك قبل المصير إلى الترجيح الموجب ترك العمل بأحد النصين، فإن تعذر الجمع بين النصوص المختلفة وجب المصير إلى العمل بالراجح، وإن كان ذلك لا يقع إلا بالاجتهاد؛ لأن تمييز المقبول من المردود فيما يضاف إلى صاحب الشريعة واجب.
صور تعارض الجرح والتعديل
الأصل أن يقع تعارض الجرح والتعديل بين قول ناقد وناقد غيره، لكنه أيضاً ربما يقع في النقل عن الناقد نفسه، فيأتي عنه التعديل والجرح جميعاً، وبالنظر إلى ذلك فهناك صورتان:
الأولى: تعارض الرواية في الجرح والتعديل عن الناقد المعين، ومن أكثر من نقل عنه مثل هذا من الأئمة يحيى بن معين، فإنه كثيراً ما تختلف الرواية عنه.
الثانية: تعارض الجرح والتعديل الصادرين من ناقدين أو أكثر، وهذا هو الأكثر في هذا الباب، وهو أشق مسائله وأصعبها.
ضوابط قبول الجرح أو التعديل
تحرير القول في الراوي المختلف فيه جرحاً وتعديلاً يحتاج إلى اعتبار تنبيهات وضوابط ينبغي مراعاتها؛ للمصير إلى ما هو الألصق بالعدل الذي أوجب الله عز وجل في حق نقلة العلم، ولئلا ينسب إلى الدين برواية من ليس بأهل ما ليس منه، أو ينفي عنه بالقدح على الثقة ما هو منه، ومن تلك التنبيهات والضوابط ما يلي:
1- أهلية الناقد لقبول قوله: والمقصود أهليته للكلام في النقلة، بأن يكون مشهودا له بالصلاح والورع، حافظا للحديث عارفا به وبأهله، بجانب حذره ومبالغته في الاحتياط والتيقظ، ومعرفته بأسباب الجرح والتعديل.
2- التحقق من ثبوت الجرح أو التعديل عن الناقد المعين: والمقصود أن تُحاكم النصوص المنقولة عن علماء الجرح والتعديل في نقد الرواة بنفس قوانين علم الحديث، فلا يفرَّع إلا على صيغة ثبت إسنادها إلى قائلها، فهناك روايات عديدة ذُكرت عن بعض الأئمة لا توجد عنهم من طريق مسند، أو وُجدت ولكن أسانيدها لم تثبت، وبصيغة أخرى: أن لا يُقبل ما يحكى عن الراوي مما يكون سبباً للقدح فيه إلا بالرواية الثابتة عنه.
3- منع قبول صيغة الجرح أو التعديل التي لا تنسب إلى ناقد معين: كقولهم في الراوي: (تكلموا فيه) و(يتكلمون فيه)، كما يقع في كلام البخاري وأبي حاتم الرازي وأبي الفتح الأزدي وغيرهم، و(فيه مقال) كما يكثر عند المتأخرين، وما يشبهها من الألفاظ التي لا تعزى إلى ناقد معين.
ولا اعتبار بأن يكون حاكيها من النقاد المعروفين، فإنه لم ينشِئها من جهته، إلا أن يضيف إليها من عبارته ما يبينها، كما أنها من قبيل الجرح المجمل، لكنها تدل على شبهة الجرح، فيُبحث عن تفسيرها، فإن عُدم عدم أثرها.
4- اعتبار بشرية الناقد في تأثيرها في إطلاق الجرح أو التعديل: يعتري الناقد ما يعتري البشر من الغفلة أو الغضب، فيقول القول لا يعني به شيئاً يتصل بهذا العلم، وإنما أوقعه فيه بعض هذه العوارض، فهذا إن كان لفظ جرح أو تعديل، فإنه لا يجوز أن يكون له أثر على الراوي الموصوف بذلك، ومن ذلك (جرح الأقران)، ككلام مالك بن أنس في محمد بن إسحاق وكلام ابن إسحاق فيه.
وليس المراد بالتنبيه على ذلك إلغاء كلام القرين في قرينه مطلقاً، بل إن أدق صور النقد للنقلة هي النقد للمعاصر، ومنه نقد الأقران، وذلك لكون الناقد قد اطلع على حال من عدّله أو جرحه وخبر أمره، فهو أقوى من جرحه أو تعديله لمن لم يدركه، وإنما المراد هنا: البحث عن سبب الجرح عند معارضة التعديل، فإن أعاد الناقد الجرح إلى علة مُدرَكَة في شأن من جرح واستدل لذلك وبيّنه، فقوله معتبر ولا أثر للاقتران، إلا أن يثبت وجود خصومة أو خلاف بينه وبين من جرحه، فهذا مما يوجب الاحتياط، والأصل ترك قوله فيه.
5- التحقق من آخر قولي أو أقوال الناقد في الراوي، إن كان قد اختلف عليه: والمقصود أن الناقد قد يُعدِّل الراوي، ثم يبدو له من أمره ما يوجب جرحه فيصير إليه.
6- مراعاة دلالة ألفاظ الجرح والتعديل: إذ منها اللفظ المجمل الذي لا يتبين وجهه فيُبحث عن تفسيره في كلام قائله أو كلام غيره، أو بتأمل حال الراوي وحديثه، ومنها اللفظ الذي هو ظاهر الإفادة للجرح، ومعناه فيه بيّن، ومنها اللفظ يتردد في وضوح دلالته بنفسه.
7- التحقق من كون العبارة المعينة قيلت من قبل الناقد في ذلك الشخص المعين: وذلك أن حكاية ألفاظ علماء الجرح والتعديل من قبل رواتها والناقلين لها عنهم قد يداخلها الوهم، فيكون الناقد قال تلك العبارة في راو، فيذكرها من أخذها عنه في راو آخر، ربما شابهه في اسمه أو نسبه، أو انتقل البصر من ترجمة إلى أخرى.
8- التحقق من لفظ العبارة المنقولة عن الناقد: ومن ذلك أن يأمن التصحيف أو التحريف للعبارة بما قد يحيل معناها عن مقصوده.
9- التيقظ إلى ما يقع أحياناً من المبالغة في صيغة النقد: وذلك كاستعمال العبارات المُشعرة بشدة جرح الراوي، كأن يُحمل خطؤه على الكذب، وإنما هو الوهم، أو يُحمل منكراً رواه عليه، وإنما هو التدليس.
تلك هي أشهر الضوابط التي يجب إعمالها عند تعارض الجرح والتعديل، وقد ذكر جميع الضوابط -مع أمثلة مفصلة لها- الشيخ عبد الله الجديع في كتابه القيّم "تحرير علوم الحديث"، فليراجعها من أراد الاستزادة، وبالله التوفيق.