إن الحرب القائمة بين عدو الله الشيطان وبين عباد الله من بني الإنسان، هي حرب ينبغي لكل إنسان إذا أراد النجاة أن يجعلها نصب عينيه، فلا ينساها في ليل ولا نهار، وينبغي كذلك أن يكون مرابطًا مجاهدًا فإن العدو متربص به متحفز له، يريد أن يفتك به مهما وجد إلى ذلك سبيلاً.
ومصيبة هذه المعركة أن الهزيمة فيها معناها ضياع العبد، وجحيم الأبد، ولا ينفع معها ندم وليس فيها مستعتب، {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:24].
إن معركتنا مع إبليس معركة حقيقية، معركة تستعمل فيها كافة أنواع الأسلحة، سواء كانت مادية ظاهرة، أو كانت معنوية باطنة، وفيها خيل وجنود، وسرايا وفيالق، وقتلى وصرعى، يستعمل فيها عدوك كل وسائل وأسباب النصر والظفر، ويتحرك من خلال حقد دفين وعداوة قديمة.. عداوة بدأت منذ خُلق آدم عليه السلام، وقبل أن ينفخ ربنا تعالى فيه الروح، كما ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:30].
فذكر ما خلاصته: "لما خلق الله آدم بيده من طين لازب (لازج طيب) قال: مكث أربعين ليلة جسدًا ملقى وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي (يحدث صوتا)، لأنه أجوف وليس بمصمت، ثم كان يدخل من فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول له: لست بشيء، ولشيء ما خلقتَ، لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت عليَّ لأعصينك.
فلما نفخ الله في آدم من روحه وأمر الملائكة ـ ومعهم إبليس ـ بالسجود لآدم، أظهر اللعين خبث معدنه، وأبدى مكنونات نفسه، وأظهر عداوته وأعلن بها، فأبى السجود واستكبر. قال: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً) (الإسراء:61،62)، {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون}. و{أبى واستكبر وكان من الكافرين}. فطرده الله من رحمته، وأخرجه من جنته، وكتب عليه اللعنة والغضب. {قال اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين}، {قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}.
سؤال الإمهال
فلما أيقن عدو الله بالهلاك.. سأل الله الإمهال إلى يوم الدين، فأمهله الله لحكمة يريدها، وليعلم أولياءه من أعدائه، فلما تيقن عدو الله من البقاء أقسم بعزة الله ليغوين عباده، وليسلكن معهم كل سبل الإضلال، وليحيدنَّ بهم عن صراط الله المستقيم. {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16، 17].. {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً}[النساء:118 - 120].
ومنذ ذلك الحين بدأت المعركة، ولن تنتهي حتى يضع المؤمن أول قدم له في الجنة ولن تنقضي حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
الله يذكرنا
ولما كان بعض الناس ربما ينسى هذه العداوة لبعد العهد بها، ذكرهم الله بذلك ليكونوا دائمًا متيقظين مستوفزين مستعدين حذرين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر:5، 6]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ }[النور:21}. وقال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:168، 169].
فأخبرنا سبحانه بأن الشيطان عدو لنا، وأمرنا أن نتخذه عدوا.. وحق الخبر أن نصدقه، وحق الأمر أن ننفذه.
فمن قبل من الله نصحه، عاش مرابطًا مجاهدًا ساعة وتنقضي، ثم فاز فوز الأبد، ومن غفل عن هذه المعركة، واتخذ من إبليس صاحبا ، أو قائدًا وساحبًا؛ فجزاؤه المستحق هو ما بينه له ربه تعالى في كتابه: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف:18]، {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً}[الإسراء:63]، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص:84، 85].