تعود بنا الذاكرة لمواقف الأوائل من قادة السلف الصالح، الذين أدركوا كم هي ثقيلةٌ تلكم المسئولية، التي أشار إليها الرسول- صلى الله عليه وسلم- بقوله: [إنها لأمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها].
ولا أعني بالقيادة هنا القيادة الجماعية أو أجهزة القيادة، وإنما عنيت بها شخص القائد، المسئول الأول الذي يتحمل وحده مسئولية الموقف والقرار والمتابعة والتنفيذ والإمساك بالصف.
وهنا أود أن ألفت إلى مفاهيم بدعية تسللت إلينا، وهي أن القيادة في الإسلام جماعية، ظنًّا من أصحابها أن إلزامية الشورى من شأنها أن تجعل القيادة جماعية، وبذلك تذيع المسئولية القيادية؛ حيث يصبح كل عضو من أعضاء المجالس القيادية قائدًا؛ مما يفتح بابًا لا يُغلق لنشوء مراكز القوى، وصراع الرؤوس والرئاسات، فضلاً عن بروز قياداتِ ظلٍّ يكون لها من الهيمنة على القرار ما لا يكون لقيادات العلن!
ما أودُّ أن أؤكد عليه أن مسئولية القائد الشرعية مسئولية عُظمى لا تماثلها مسئولية أخرى؛ ومن أجل ذلك كان الموقف النبوي من هذه المسئولية صارمًا جازمًا، إذ قال: [إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع].
إن استشعار القائد لهذه المسئولية يجعله يعيش هَمَّ من يقود ويسوس ويرعى.. فهو يحرص على العدل بين الرعية، وينأى عن مظنَّات الظلم أو الانحياز، فالجميع أمامه سواء، وإنما يتفاضلون بالتقوى والبذل والتضحية، وَدَيْدَنُهُ في ذلك وقدوته أئمة الهدى الأولون من أمثال أبي بكر وعمر الذيْن قال أولهما يوم وَلي الخلافة: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق".. في ضوء ذلك لم يعُد غريبًا ما سجله الفاروق عمر- رضي الله عنه وأرضاه- حيث قال فور انعقاد تبعات الخلافة عليه: "ليت أمَّ عمرَ لم تلد عمرَ".
حاشية القائد والمقربون منه
إن مدخل الفساد وباب الإفساد الأكبر ألا يهتم القائد بنوعية حاشيته والمقربين منه، وألا تكون لديه موازين شرعية في عملية الاختيار، وأن يترخَّص في مساءلة هؤلاء ومحاسبتهم.. إن ما نفخر به ونعتزُّ في تاريخنا الإسلامي المجيد تلكم المواقف القدوة التي سجَّلها القادة، حيال سقَطات المسئولين والأتباع وأفراد الحاشية، وهو ما يجب أن يُحتذى.
ما أحوج القيادات الإسلامية إلى احتذاء مواقف كموقف المكلَّف بالجباية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي سمح لنفسه بقبول هديةٍ قُدمت إليه خلال عمله الوظيفي، وقال: هذه لكم، وهذه أهديت إليَّ؛ حيث أنْكَر عليه القائد فعلتَه، وقال: [أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يُهدى إليه أم لا؟].
وما أحوج القيادات إلى موقف كموقف الخليفة عمر حين عاقب واليَه على مصر عمرَو بنَ العاص؛ بسبب اعتداء ابنه على فتًى قبطي، حيث أعطى القبطي عصاه، وقال له: اضرب ابن الأكرمِين، والتفت إلى ابن العاص قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟".
إن تقريب القائد لضعيفي الإيمان مهزوزي الالتزام طالما أنهم يوالونه ويؤيدونه، وإبعادَه للأتقياء الأنقياء لأنهم يعارضونه ويصدقونه المشورة والنصح.. لهو دليل صارخ على فساد في شخصيته، وضعفٍ في عقيدته وزغل في طويته.
مطلوب من القائد أن يحرص على تقريب أهل المعرفة والدراية والورع من الذين عرفوا زمانهم واستقامت طريقتهم، وستبقى الآية القرآنية: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِيْنُ}[القصص: 26] القاعدة الفضلى والمثلى في اختيار الأتباع والأصحاب والمساعدين والمكلَّفين والموظفين في شتَّى الظروف والأحوال.
إن من نتائج سوء اختيار القائد لحاشيته أن يناله نصيب من فسادهم، سواء فيما يشيرون عليه من سوء آراء وأفكار، أو فيما يمارسونه من جهالات، كما سيؤدي ذلك لا محالةََ إلى بُعد الصالحين المؤهلين عنه؛ تحاشيًا لمن يمكن أن ينالهم منه أو من حاشيته من سوء!! ولكَم انهارت كيانات بسبب استفحال هذه الظاهرة في صفوفها!!
ــــــــــــــــــــــــ
أ.فتحي يكن رحمه الله