الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السيرة الذاتية في الأدب العربي

السيرة الذاتية في الأدب العربي

السيرة الذاتية في الأدب العربي

صدر عن مشروع "كلمة" التابع لهيئة أبي ظبي للثقافة والتراث كتاب "ترجمة النفس.. السيرة الذاتية في الأدب العربي" وهو من تأليف مجموعة من أساتذة الأدب في أميركا، تحرير دويت راينولدز وترجمة سعيد الغانمي. وكما هو معروف فإن "ترجمة النفس" أو كتابة "السيرة الذاتية" لم تحظَ باهتمام النقّاد والدارسين العرب والمستشرقين على حد سواء على الرغم من كونها جنساً أدبياً يتوفر على ملامح واشتراطات خاصة.
ويعود هذا الإهمال إلى بعض المغالطات التي شاعت في الأدب الغربي بأن السيرة الذاتية هي نوع غربي خالص لم يعرفه الكتّاب العرب من قبل.

كما عزّز هذه الأوهام بعض الاستنتاجات النمطية الجامدة التي تقول بأن المسلمين لم يعرفوا أدب " السيرة الذاتية والاعتراف" الذي يتمحور حول البوح بهدف التكفير عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان المُذنِب.
لقد ردّ على هذه الفرية الإمام جلال الدين السيوطي قبل بضعة قرون حينما قال: "ما زال العلماء قديما وحديثا يكتبون لأنفسهم تراجم". وهذا يعني أن الأدباء والكُتّاب العرب والمسلمين كانوا منهمكين على مدى عشرة قرون في الأقل في كتابة التراجم والسير الذاتية. لا شك في أن بعض التراجم مكتوبة بضمير الغائب، وليس بضمير المتكلم، وأنها تركز على الفعل أكثر من الانفعال، وقد لا تنطوي على اعترافات كبيرة، وربما تكون مناسبة لتعظيم الذات وتحمل صاحبها على المبالغة والتباهي والغرور، ولكن هذا لا يمنع من كونها سيراً ذاتية تنطوي على قدر كبير من الحقيقة. فدافع المؤلف العربي أو الإسلامي في كتابة سيرته الذاتية هو دعوة القارئ إلى الاقتداء بسيرته أو تبيين نعم الله عليه بدليل الآية الكريمة التي تقول "وأما بنعمة ربك فحدّث".

يركز الفصل الأول من هذا الكتاب على أن السيرة الذاتية هي نوع غربي خالص كما أشرنا سلفاً. وأن الثقافة الغربية تعامل الذات باعتبارهما منقسمة بين "النفس الخارجية" المُعلَنة، و"النفس الداخلية" المُضمرة، فيما تنحصر وظيفة الكتابة في إشهار المضمر وإعلان المكتوم ومحاولة المطابقة الصريحة بين الذات الداخلية والخارجية. فيما يرى مؤلفو هذا الكتاب التسعة بما فيهم المحرر دويت راينولدز أن هذه الثنائية ليست ضرورية ولا مطلقة، بل هي نتيجة للثنائية الفرويدية التي شاعت بين الوعي واللاوعي والتي لم تتبلور في الثقافة الغربية.

يسلّط الفصل الثاني الضوء على أبرز أنماط الكتابة الحميمة وهي السيرة، والترجمة، والبرنامج، والفهرسة والمناقب. وكما هو معروف فقد شاع النمطان الأولان وانتشرا بشكل واسع على المستويين التاريخي والجغرافي. أما مصطلحا البرنامج والفهرسة فقد ارتبطا بمناطق جغرافية وحقب زمنية محددة. إذ استُعمِل مصطلح "برنامج" بمعنى سيرة حياة في إسبانيا الإسلامية وتحديداً منذ القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر، فيما انحصر استعمال الفهرسة بمعنى السيرة أو السيرة الذاتية في شمال أفريقيا في السياقات الصوفية فقط. أما مصطلح المناقب الذي يعني "الفضائل" بالمعنى الحرفي فقد ارتبط ارتباطا واضحا بالثناء والمدائح قبل أن يتحوّر ليعني السيرة الذاتية.

يؤكد مؤلفو هذا الكتاب أن السير الذاتية المبكرة قد ألفت بمعزل عن بعضها كما هو الحال في سيرة حُنين بن إسحاق والمُحاسبي والترمذي، لكن بحلول القرن العاشر وبدايات القرن الحادي عشر بدأ تداول سير ذاتية قصيرة كتبها أطباء وفلاسفة مثل الرازي وابن الهيثم وابن سينا وقد حظيت باهتمام القرّاء في مساحة جغرافية واسعة. ثم ظهرت سير ذاتية طويلة مثل سيرة ابن بلقين والغزالي. ولا بد من الإشارة إلى ظهور بعض السير الذاتية التي تتمحور حول موضوع التحوّل الديني من اليهودية أو المسيحية إلى الإسلام كما هو الحال مع السموأل المغربي وفراي أنسليمو تورميدا (عبد الله الترجمان).

تختلف دوافع المؤلفين تبعا لتوجهاتهم الفكرية والروحية والثقافية فقد كتب حُنين بن إسحاق والرازي سيرتيهما دفاعاً عن نفسيهما ضد نقادهما، بينما كتب المُحاسبي سيرة ذات طبيعة روحية، فيما كتب ابن الهيثم والمؤيد الشيرازي والداني تقارير بحثية عن حياتهم. ومع بدء القرن الثاني عشر حتى القرن الرابع عشر ظهرت نصوص لسير ذاتية مكتوبة بأشكال مختلفة بعضها على شكل لمحات مدرسية، وبعضها الآخر على شكل إرشادات روحية، أو أعمال أدبية خالصة مثل سيرتي عمارة اليمني وأسامة بن منقذ. ثم حدثت نقلة كبيرة في السيرة الذاتية في أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر حينما ظهرت سير للسخاوي والسيوطي وابن طولون الدمشقي والعيدروس وغيرهم الكثير.

درس مؤلفو الكتاب التسعة السيرة الذاتية العربية في الفصل الرابع دراسة نصية واعتمدوا على نماذج تطبيقية مهمة أبرزت خصوصية الذات، ونمو الشخصية عبر مراحل متعددة تبدأ من الطفولة، مروراً بالصبا والشباب وذروة النضج، وانتهاء بالشيخوخة. كما ركزوا في هذا الفصل على أهمية الأحلام والهواتف والرؤى وتضمين السير الذاتية باستشهادات شعرية مهمة بغية التركيز على الانفعالات الداخلية لكاتب السيرة الذاتية لأن المنتقدين يرون أن السير الذاتية العربية تميل إلى الفعل لا الانفعال، كما أنها تصوّر انفعالات الآخرين وتهمل انفعالات الذات.

يتضمن القسم الثاني من الكتاب ترجمة لثلاث عشرة سيرة ذاتية عربية إلى الإنجليزية غير أن المترجم سعيد الغانمي اعتمد على الأصول العربية لهذه السير كما ساهم في تحقيقها وإضافة بعض المعلومات التي وجدها ضرورية ومفيدة للنصوص الأصلية ومن بين هذه السير الذاتية نذكر سيرة حُنين بن إسحاق وعبد اللطيف البغدادي وجلال الدين السيوطي وعلي مبارك.

كما عزّز المؤلفون الكتاب بكشّاف إحصائي للسير الذاتية العربية يضم ما يزيد على مائة وأربعين سيرة ذاتية عُثر على نصوصها أو وجدوا أخبارا متداولة عنها. كما أضاف المترجم سعيد الغانمي عدداً من السير الأخرى التي لم يقع عليها المؤلفون التسعة للكتاب. ضم الكتاب في خاتمته ثبتا بعدد من المصطلحات التي استعملت في متن الكتاب مع شروح وافية لها توفر للقارئ معلومات دقيقة تضيء متن هذا الكتاب وتستجلي موضوعه الشيق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

ثقافة و فكر

كيف نقف خلف اللغة العربية؟!

إنَّ المتتبِّعَ لكلِّ من كتَبَ عن وقائعِ أمَّتنا في العصْرِ الحديث، يدركُ أنَّ الأمَّةَ العربيَّةَ لم تَعرِفْ...المزيد