لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ما يصيب أصحابه من العذاب والبلاء ـ من كفار قريش ـ ، أشار عليهم أن يهاجروا إلى الحبشة ، لعلمه أن ملكها النجاشي ملك عادل ، لا يُظلم عنده أحد ، فخرج أول فوج من الصحابة مهاجرا إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة ، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش ، فخرجوا إلى البحر ، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم ، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم ، وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة ، حيث وجدوا الأمن والأمان ، ولقوا الحفاوة والإكرام من ملكها النجاشي الذي كان لا يظلم عنده أحد كما أخبر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقد وصفت أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ هذا الحدث فقالت : ( لما ضاقت علينا مكة ، وأوذي أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفُتِنوا ، ورأوا ما يصيبهم من البلاء ، والفتنة في دينهم ، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يستطيع دفع ذلك عنهم ، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منعة من قومه وعمه ، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه ، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه ، فخرجنا إليها أرسالاً ( جماعات ) حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً )(البيهقي) ..
شق على المشركين إفلات من هاجر من المسلمين ووصولهم إلى مكان يأمنون فيه على إيمانهم وأنفسهم ، ومن ثم قرروا إرسال رجلين منهم ، وهما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ، ليستردوا هؤلاء المهاجرين إلى مكة ، وأخذا معهما هدايا كثيرة للبطارقة والنجاشي ، ولم يتركوا من البطارقة بطريقا إلا أهدوا إليه هدية ، وقالا لهم : إنه قد ضوى إلى بلدكم غلمان سفهاء ، فارقوا دينهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد أتينا إلى الملك ليردهم إلينا ، فإذا كلمنا الملك في ذلك فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ، فقالوا لهما : نعم ..
فأتيا النجاشي وقالا له ما قالاه للبطارقة ، فأيدهما البطارقة وقالوا : صدقا أيها الملك ، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم .. لكن النجاشي احتاط في الأمر ورأى أن يسمع القضية من الطرفين ، فدعا المسلمين وسألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من الملل ؟ ، فتكلم جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقال :
" أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل منا القوى الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك ..
فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ ، فقال له جعفر : نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأه علىَّ ، فقرأ عليه صدرًا من : { كهيعص }(مريم:1) ، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا .. فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة : والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم ، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة : لا تفعل ، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا ، ولكن أصر عمرو على رأيه ..
فلما كان الغد قال عمرو للنجاشي : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيماً ، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا ، ولكن أجمعوا على الصدق كائناً ما كان ، فلما دخلوا عليه وسألهم ، قال له جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول ، فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال : والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود" ..
وقد أسلم النجاشي ، وصدَّق بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه ، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل وحرصهم على الضلال ، وجمودهم على العقائد المنحرفة ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( .. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، وخرج بهم إلى المصلى ، فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات )(البخاري)..
إن المتأمل والناظر في حدث الهجرة إلى الحبشة يلحظ حِكما ودروسا كثيرة ، منها :
ظهور شفقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، ورحمته بهم ، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم ، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى ملك عادل لا يظلم أحد عنده ، فكان الأمر كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأمِنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل .. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة ، وهو الذي اختار المكان الآمن لدعوته وصحابته ، كي يحميهم ، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخطط بحكمة لحماية الدعوة وأتباعها ، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون مركزاً من مراكز انطلاقها .. وفي ذلك أيضا دلالة على حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعرفته بما حوله من الدول والممالك ، طيبها من خبيثها ، وعادلها من ظالمها ..
كذلك أظهرت الهجرة إلى الحبشة فقه الحوار ، والحكمة في الدعوة إلى الله ، فكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله على مستوى كبير من الذكاء ، فشحن كل ما لديه من حُجة ، وألقى بها بين يدي النجاشي ، خاصة في قوله : فهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم إلهاً ، فليسوا على دين قومهم وليسوا على دينك .
وهنا ظهرت حكمة جعفر ـ رضي الله عنه ـ وفقهه في رده على كل الشبه والاتهامات الباطلة ، فبدأ كلامه بتعديد عيوب الجاهلية ، وعرضها بصورة تنفر السامع ، وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك ، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بدين ونبوة .. ثم عرض شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجتمع المليء بالرذائل ، وكيف كان بعيداً عن النقائص كلها ، ومعروفاً بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ المؤهل للرسالة ..
ثم أبرز جعفر ـ رضي الله عنه ـ محاسن الإسلام وأخلاقه التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء ، كنبذ عبادة الأوثان وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وعندما طلب النجاشي شيئاً مما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاء بصدر سورة مريم ، التي تتحدث عن مريم وعيسى ـ عليهما السلام ـ وذلك غاية في الإحكام والحكمة ، والروعة والتأثير ، حتى بكى النجاشي وأساقفته .. ثم أوضح للنجاشي عقيدة المسلمين في عيسى ـ عليه السلام ـ وأمه ، فهو عبد وليس بإله ، ولا يُخاض أبدا في عِرْض مريم - عليها السلام - كما يخوض الكاذبون ، بل عيس ابن مريم كلمته وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة ، وليس عند النجاشي زيادة عما قاله جعفر ـ رضي الله عنه ـ ..
ومن ثم انتهى الأمر والحوار بأن أعلن النجاشي صدق جعفر ـ رضي الله عنه ـ ، وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يأتيه الناموس كناموس موسى ..
ولا عجب من حكمة جعفر ـ رضي الله عنه ـ فقد تربى على يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال عنه : ( أشبهت خَلقي وخُلُقي )(البخاري) ..
لقد كانت الهجرة إلى الحبشة حركة إيجابية ، ورؤية مستقبلية ، وتجاوزا لحالات الحصار والعذاب ، وانطلاقا إلى أرض جديدة ، كما أنها امتداد بالدعوة إلى خارج الحدود الضيقة والقلوب المتحجرة ، فدعوة الإسلام عالمية ، والداعية المسلم الحكيم هو الذي يغير موقعه ولا يغير هدفه وغايته ..
وهكذا هيأ الله لعباده المؤمنين المستضعفين ـ بهذه الهجرة ـ المأوى والحماية من أذى قريش ، وأمَّنهم على دينهم وأنفسهم ، واستطاعوا ـ فضلا عن المحافظة على دينهم وأنفسهم ـ أن ينشروا دينهم ودعوتهم وأن يكسبوا أرضاً جديدة تكون منطلقاً لرسالة الإسلام ودعوته ..