من المتفق عليه بين المسلمين أن خطبة الجمعة شُرعَت لتذكير الناس بما نسوا من أمر دينهم، وتنبيههم على ما غفلوا عنه، وتعليمهم ما جهلوا منه، وإرشادهم لما فيه صلاحهم، ووعظهم لترقيق قلوبهم؛ فكل أولئك من مقاصد خطبة الجمعة.
وإذا نزلت بالناس نازلة لها مساس بدينهم أو دنياهم فإن خطباء الجمعة من جملة مَن يُهرَع الناس إليهم، ويريدون رأيهم فيها؛ حتى إنهم يفرحون بتطرُّق الخطيب للنازلة، وينزعجون من تجاهله لها؛ ولذا فإنه لا بد للخطيب من العناية بفقه النوازل، وكثرة القراءة فيه، والتأمل الكثير في النازلة، وسؤال أهل العلم والاختصاص بها، وعرض تأملاته تجاهها عليهم، وأخذ ما لديهم من علم ومعرفة بها مما ليس عنده.
وهذه المقالة تحاول استقراء النوازل التي تهم الخطباء، ولها مساس بخطبة الجمعة، وتقسيم هذه النوازل باعتبارات عدة، مع مقترحات لكيفية تعامل الخطيب معها؛ فإني لم أقف على من عالجها على هذا النحو الذي أرى أن الخطيب يحتاجه رغم تعدد البحوث والمقالات في النوازل.
أقسام النوازل باعتبار مصدرها:
القسم الأول: النوازل الكونية التي لا يد للبشر فيها: كالزلازل والأعاصير والفيضانات ونحوها.
القسم الثاني: النوازل التي وقعت بسبب البشر: كالحروب، ونشر الأوبئة، والتلاعب الاقتصادي والبيئي ونحو ذلك.
أقسام النوازل باعتبار انتشارها:
القسم الأول: نوازل محدودة: كالتي تصيب بلداً أو طائفة من الناس، مثل الزلازل التي تصيب بلداً فهي نازلة بالنسبة لمن أصابتهم.
القسم الثاني: نوازل محلية وإقليمية: وهي التي تصيب أهل دولة أو إقليم كامل ، مثل سقوط قيمة العملات في شرق آسيا قبل سنوات، ومثل كارثة الأسهم في دول الخليج .
القسم الثالث: نوازل دولية: وهي التي تعم الدول، ويتأثر بها أكثر البشر، مثل موجة الغلاء التي اجتاحت العالم، ومثل أنفلونزا الخنازير التي دخلت أكثر الدول.
أقسام النوازل باعتبار أنواعها:
أظن أنه لا يمكن حصر أنواع النوازل؛ إذ بالإمكان أن تكون النازلة في أي مجال من المجالات، ولكن يمكن وضع تقسيم كلِّي أغلبِي تندرج تحته أكثر النوازل:
النوع الأول: نوازل كونية: كالزلازل والفيضانات والغرق.
النوع الثاني: نوازل سياسية: كاحتلال بلد مسلم، أو تقسيمه، أو فصل بعضه عنه.
النوع الثالث: نوازل اقتصادية: كالكساد والغلاء.
النوع الرابع: نوازل بيئية وصحية: مثل تلوث الأجواء والبحار، وانتشار وباء في بلد من البلدان.
النوع الخامس: نوازل إعلامية وثقافية: فإن البث الفضائي، وشبكة المعلومات، وما يعرض فيها من فحش وعري وأفكار هدامة يعد من النوازل العظيمة.
توجيهات عامة في النوازل:
التوجيه الأول: أن لا يتكلم الخطيب في النازلة إلا بعلم؛ سواء في ما يتعلق بها من أحكام شرعية، أو في الإخبار عنها، أو في إرشاد الناس لما يعملونه حيالها؛ فليست خطبة الجمعة مقالة في صحيفة أو مجلة يبث فيها الكاتب آراءه الشخصية، بل هي عبادة مشروعة، وتكتسب مصداقية عند الناس، فلا يحسن بالخطيب أن يهز هذه المصداقية، أو يستغل المنبر لبث آرائه الشخصية وهي لا تتسق مع النصوص، مع اشتراط امتلاكه للآلة العلمية في النازلة، فالخطأ يكون بسبب الجهل أو بسبب الهوى، فَلْيحذرهما الخطيب.
التوجيه الثاني: إذا استعصى على الخطيب فهم النازلة، أو تنزيل الأحكام الشرعية عليها؛ لشدة التباسها، وكثرة الخلاف فيها فلا يحسن به إهمالها بالكلية، وعليه أن يتلمس فيها مواضع الاتفاق، ومواطن العبرة والاتعاظ، وحينئذٍ لم يهمل النازلة بالكلية والناس يتشوفون لكلامه فيها، ولم يقل فيها بلا علم، ولعل أقرب الأمثلة على ذلك الثورات العربية التي اختلف فيها الناس اختلافاً كثيراً؛ فمنهم من أيدها بإطلاق، ومنهم من منعها بإطلاق، ومنهم من أيد بعضها ومنع بعضها باعتبار حال الحكام أو باعتبار حال المحكومين أو باعتبار من يحرك الثورة، أو باعتبار المستفيد منها... إلخ، وأحداث بهذه الضخامة هي حديث الإعلام والناس لا يحسن بالخطيب الإعراض عنها لحيرته فيها، وإنما يستطيع التطرق لما هو متفق عليه فيها مثل:
1 - قدرة الله - تعالى - في إعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء، وأنه مالك الملك يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
2 - عاقبة الظلم والأثرة، وأنهما سببان لاضطراب الدول، واختلال الأمن.
3 - أهمية العدل في توطيد الأمن والاستقرار، وحاجة الناس إليه.
4 - عاقبة الظالمين ومصارعهم في الدنيا والآخرة.
5 - كثرة الفتن والاضطراب في آخر الزمان، وما ينبغي للمسلم في أحوال الفتن.
6 - أسباب الأمن والاستقرار، وأسباب الخوف والاضطراب.
التوجيه الثالث : أن يفرق الخطيب في تناوله للنازلة بين بدايات وقوعها، وبين انتشارها وعموم البلوى بها؛ ليكون ذلك أدعى لقبول توجيهه للناس؛ فإن المعاصي يُنسِي المتأخر منها المتقدمَ حتى يألفها الناس، وإن الفتن يرقق بعضها بعضاً كما في الحديث، ومن الأمثلة على ذلك نازلة البث الفضائي؛ ففي بداياته حذر العلماء والخطباء من الأطباق الفضائية وحرَّموها، وهو تحريم وسائل لا تحريم ذوات؛ فإنها لما كانت تفضي إلى المحرمات ولا يوجد بدائل من جنسها كان الصواب التحذير من جميعها، ولو وجد فيها قليل من البرامج النافعة؛ وذلك لغلبة المحرم فيها.
لكن لما نشأت القنوات الإسلامية، ووجدت قنوات علمية خيرها غالب، وشرها قليل، وقد انتشر هذا البلاء في الناس وصار جزءاً من حياتهم اليومية لم يكن من المناسب في الخطب إطلاق تحريم البث الفضائي وأطباق استقباله أو إطلاق تحريم التلفزيون، وهذا التناول سيكون محل استهجان وانتقاد عند أكثر العامة والخاصة، وهذا يؤدي إلى عزوف الناس عن الخطيب، وعدم قبول قوله، فتكون الاستفادة من خطبة الجمعة قليلة أو معدومة، وهذا ينافي مقاصدها التي شرعت لأجلها.
وأفضل من ذلك وأحرى بقبول الناس وبتحقيق المقصود دون تنازل عن شيء من الشريعة أو تسويغ المنكرات: التحذير من القنوات التي فيها انحراف فكري أو أخلاقي، أو التحذير من برامج منحرفة، ودعوة الناس إلى حجبها عن أسرهم وبيوتهم، وحثهم على الفضائيات النافعة للاستعاضة بها عن الضارة.
التوجيه الرابع : اجتهاد الخطيب في الربط على قلوب الناس وتثبيتهم، وتعليق قلوبهم بالله - تعالى - ودوام التمسك بدينه؛ وذلك في النوازل المخوفة التي لها مساس بأمن الناس وأرزاقهم، كما في النوازل السياسية والاقتصادية، ونوازل الكوارث والأمراض والأوبئة التي تفتك بالناس؛ فإن العقول تطيش فيها، وينحرف كثير من الناس بسببها في باب القدر، من هول الفاجعة، وفقد المال والأهل والولد، فيحتاجون إلى تثبيت وتصبير، وعلى الخطيب أن يركز الخطب في التوكل على الله - تعالى - وتعلق القلوب به وحده دون مَن سواه، وبيان الحِكَم في ابتلاءاته - سبحانه - لعباده، وكيف يواجهها المؤمن، والأجور العظيمة المرتبة عليها، وأسباب رفع العقوبات، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا النوع من النوازل مما تمس حاجة الناس إليه كأحكام الموت الجماعي في التغسيل والدفن والتوارث ونحو ذلك.
والفقه في هذا النوع من النوازل مما تمس حاجة الخطيب له؛ لتكرار وقوعه، وشدة خوف الناس منه، وعودة كثير منهم إلى الدين بسببه، ولجوئهم إلى المساجد والخطباء لعلاج قلوبهم من الألم والخوف، ولأهمية هذا النوع من النوازل فلا بد من توجيهات تفصيلية فيه، ومن هذه التوجيهات:
- أن يوجه الخطيب : أن هذه الكوارث والنوازل عقوبات لمن أصابتهم وكانوا ممن يستحق العقوبة، وابتلاء لمن لا يستحقونها، ورحمة وإنذار لمن سلموا منها، وتخويف لعموم الناس، وإظهار لقدرة الرب - جل جلاله - عليهم. قال الله - تعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} وهذا دليل على القدرة الباهرة لله - تعالى - أن يجعل في النازلة الواحدة رحمة وعذاباً وابتلاء وتخويفاً وإنذاراً.
وقد تصيب الكارثة مسلمين عقوبة لهم، ويسلم منها كفار ومنافقون؛ استدراجاً أو إمهالاً.
- التنبيه على ما يقع من أخطاء في التناول الإعلامي للكوارث والنوازل؛ فإن أكثر الإعلاميين من أجهل الناس بالعقيدة والشريعة، وأجرئهم على الكلام بلا علم أو بهوى، فتتسرب أقوالهم الخاطئة إلى العامة، ومن أخطائهم المتكررة:
1 - نسبة الحوادث الكونية إلى الطبيعة، أو تعليقها بأسباب مادية دون ربط ذلك بقدر الله - تعالى - وقدرته؛ كتفسير الزلازل بتصدعات في الأرض، والفيضان بمد البحر، ونحو ذلك.
2 - وصف من قضوا في النوازل الكونية بأنهم أبرياء، وهذا يشعر بأنهم مظلومون، ولازم ذلك أن من فعل بهم ذلك قد ظلمهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهنا ينبغي للخطيب التنبيه على هذه التجاوزات، وبيان الحكم الشرعي في موقف المسلم منها، ومواجهة المد الإلحادي المادي المستهين بعظمة الله - تعالى - وقدرته، وتكون مواجهته برد دعاوى أصحابها، وغرس تعظيم الله - تعالى - في القلوب.
- يوجه الخطيب : الأحكام الشرعية المتعلقة بالنازلة، مثل التعامل مع شهداء الغرق والهدم ونحوه في الدفن وفي المواريث وغيرها، وخاصة في البلد الذي وقعت فيه الكارثة؛ لأن لفقه النوازل مناسبته في الديار التي أصيبت به.