حقوق ولي الأمر:
إذا قام ولي الأمر بما وجب عليه من حقوق الأمة المتقدم ذكرها، فقد أدى حق الله - تعالى - في ما أوجبه عليه، ووجب له على الأمة حقَّان:
أولاً: الطاعة في ما يأمر به أو ينهى عنه كما وردت بذلك النصوص المتكاثرة: ويدخل في ذلك ترك الخروج عليه، وطاعة الخليفة ليست مطلقة؛ وإنما هي مقيدة بكونها في المعروف لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف»[متفق عليه]، وبكونها في غير المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية الله»[رواه مسلم]. قال ابن خويز منداد: «وأما طاعة السلطان فتجب في ما كان لله فيه طاعة، ولا تجب في ما كان لله فيه معصية»[القرطبي 5/259].
ثانياً: النصرة: أي مناصرته والانتصار له؛ ويدخل فيها نصيحته والذبُّ عنه وعدم القدح فيه وترك مساعدة الخارجين عليه، بل الوقوف معه لو جاء أحد ونازعه الأمر ما دام أنه لم يخرج على الشريعة وقائم بتحقيق مصالح الأمة.
وحقوق ولي الأمر على الأمة لا تثبت له إلا بسبب قيامه بما يجب عليه لهم، يدل لذلك ما روي عن الصحابي الجليل رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. قال القرطبي: «روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: حقٌّ على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته»[تفسير القرطبي: 5/259.
ماذا لو قصر ولي الأمر:
لكن ماذا لو قصَّر الخليفة في القيام بما وجب عليه، أو تجاوز حدوده وحقوقه الثابتة له شرعاً؟
على الرغم من أن المأمول أن يقوم الخليفة بما وجب عليه على أحسن الوجوه؛ وذلك للتدقيق الشديد في تحقُّق الشروط المسوِّغة لاختياره عن غيره ممن يصلح لهذا المنصب، إلا أن الشخص المختار قد لا يتحقَّق المأمول منه نظراً لما يعتري الإنسان من ضعف البدن أو ضعف الديانة، ومن ثَمَّ فإن الشريعة قد تحسَّبت لهذا الأمر وبيَّنت ما ينبغي فعله في هذه الحالة، فمن ذلك:
1- النصيحة: فقد ورد من طرق متعددة كما هو مبيَّن في دواوين السُّنة قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»[أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني]. كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً، وذكر من ذلك: وأن تُناصِحوا من ولاه الله أمركم»، فينبغي على المسلمين إذا رأوا في ولي أمرهم ما ينكَر عليه أن يبادروا إلى نصحه، وأن يكونوا عوناً له على سلوك الطريق المستقيم ولا يكونوا عوناً للشيطان عليه، ولا يسعوا في تأليب العامة عليه ولا ينزعوا يداً من طاعة ما لم يرَ المسلمون منه كفراً بواحاً؛ كما روى عبادة ابن الصامت قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال في ما أخذ علينا «أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسـرنا ويسـرنا وأثرة علينـا، وأن لا ننازع الأمرَ أهلَه، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان»)[متفق عليه]، ومعنى كفراً بواحاً: أي الكفر الظاهر الذي لا خفاء به. قال ابن حجر: «قال الخطابي: معنى قوله: بواحاً، يريد ظاهراً بادياً؛ من قولهم: باح بالشيء يبوح به بوحاً وبواحاً إذا أذاعه وأظهره... قوله: عندكم من الله فيه برهان: أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل؛ ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل»[فتح الباري: 13/8.
2 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا ترك ولي الأمر بعض ما يجب عليه من حقوق الرعية، أو قصر في تحصيلها، أو صدر منه ما منعت منه الشريعة، فإنه يؤمَر بالمعروف ويُنهَى عن المنكر حسبما دلت على ذلك نصوص الشريعة وأقوال أهل العلم المستخرجة منها من حيث الإسرارُ أو الإعلانُ ومن حيث اللينُ أو الشدةُ تحصيلاً للخير أو لخير الخيرين إذا لم يمكن تحصيلهما معاً، ودفعاً للشر أو لشر الشرين؛ إذا لم يمكن دفعهما معا.
3 - لكن إن عَظُمَ الخطب فالعزل أو الخروج هو آخر الدواء: وذلك إذا ما وقع في الكفر - والعياذ بالله - على وَفْقِ ما جاء في حديث عبادة بن الصامت السابق - رضي الله تعالى عنه - وقرره أهل العلم. قال إمام الحرمين الجويني: «فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفاً ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم»[غياث الأمم في التياث الظلَم، ص 106.
ويذكر الجويني ضابطاً مهماً في القيام بذلك عند حدوث سببه، وهو أنه لا يطلق للأفراد القيام بذلك فيقول: «ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته، وفشا احتكامه واهتضامه، وبدت فضحاته، وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياع البيضة، وتبدُّد دعائم الإسلام، ولم نجد مَنْ ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا؛ فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سبباً في ازدياد المحن وإثارة الفتن، ولكن إن اتفق رجل مطاعٌ ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسباً؛ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه، فَلْيمضِ في ذلك قُدُماً. والله نصيره على الشرط المقدَّم في رعاية المصالح، والنظر في المناجح، وموازنة ما يدفع، ويرتفع بما يتوقع»[غياث الأمم في التياث الظلم، ص 115 - 116.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهَى فيه عن المنكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد شاكر الشريف (البيان 287)