بعد أن بلَّغَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، بدأت طلائع الوداع من الدنيا تتسم في أقواله وأفعاله .. كاعتكافه عشرين يوما بعد أن كان يعتكف عشرا، ومدارسته القرآن مع جبريل مرتين، ووداعه لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ وقوله له : ( يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا .. )( أحمد )، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع : ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )( مسلم )..
وكانت بداية مرضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم الاثنين الأخير من شهر صفر بعد أن شهد جنازة في البقيع .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( رجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول : وارأساه ، فقال : بل أنا والله يا عائشة وارأساه .. )( ابن ماجه ).
ثم اشتد به المرض وهو في بيت ميمونة ـ رضي الله عنها ـ ، فأخذ يسأل : ( أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ يريد يوم عائشة ، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها )( البخاري ) ..
لا شك أن مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ما فيه من آلام، إلا أنه ـ كبقية فترات حياته ـ يحمل في طياته العديد من الدروس ، التي ينبغي أن نقف معها للاعتبار والاستفادة منها في حياتنا، وهي كثيرة منها :
استحباب الرقية بالقرآن, وبالأذكار :
كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اشتكى يقرا على نفسه بالمعوذات : " قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس " .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه ، جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه ، لأنها كانت أعظم بركة من يدي )( مسلم ). النفث : نفخ لطيف بلا ريق ..
قال النووي : " وفى هذا الحديث استحباب الرقية بالقرآن وبالأذكار، وإنما رقى بالمعوذات لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلا، ففيها الاستعاذة من شر ما خلق، فيدخل فيه كل شيء ، ومن شر النفاثات في العقد ، ومن السواحر ، ومن شر الحاسدين ، ومن شر الوسواس الخناس .." ..
فضل فاطمة ـ رضي الله عنها ـ :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( إنا كنا، أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنده جميعا لم تغادر منا واحدة ، فأقبلت فاطمة ـ عليها السلام ـ تمشي ، لا ، والله ما تخفى مِشيتها من مشية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآها رحب بها ، قال : مرحبا بابنتي ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها فبكت بكاء شديداً ، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك . فقلت لها ـ أنا من بين نسائه ـ : خصك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين؟!، فلما قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألتُها : عما سارَّك؟، قالت : ما كنتُ لأفشي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سره .. فلما تُوفي قلت لها : عزمت عليك بما لي عليك من الحق، لما أخبرتني، قالت : أما الآن فنعم ، فأخبرتني ، قالت : أما حين سارَّني في الأمر الأول ، فإنه أخبرني : أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك، قالت : فبكيت بكائي الذي رأيت ، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية ، قال : يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة )( البخاري ) .
وفي رواية مسلم : ( ثم سارَّني، فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت ) ..
وهنا معجزة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تدل على صدقه ، وأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وذلك بإخباره عن أمر غيبي في المستقبل ..
قال ابن حجر : " وفي الحديث إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما سيقع، فوقع كما قال ، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة ـ عليها السلام ـ كانت أول من مات من أهل بيت النبي صلى ـ الله عليه وسلم ـ بعده حتى من أزواجه " ..
المرض يكفر الذنوب :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع (المرض) من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )( البخاري ).
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : ( دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يوعك (يتألم من الحمى)، فمسسته بيدي ، فقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً , فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أجل إني أُوعك كما يوعك رَجُلان منكم، فقلت : ذلك أن لك أجرين؟، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه ، إلا حط الله بها سيئاته كما تحط (تسقط)الشجرة ورقها )( البخاري ).
المرض إذا احتسب المسلم ثوابه, فإنه يكفر الخطايا, ويرفع الدرجات, ويزاد به الحسنات, وذلك عام في الأسقام, والأمراض ومصائب الدنيا وهمومها .. والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هم أشد الناس بلاء, لأنهم مخصوصون بكمال الصبر والاحتساب، ليتم لهم الخير، ويضاعف لهم الأجر, ويظهر صبرهم ورضاهم , ويُلحق بالأنبياء الأمثل فالأمثل من أتباعهم .
عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : قلت : ( يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟، قال : الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبْتَلى الرجلُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة، خُفِّف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة )( أحمد ).
التحذير من بناء المساجد على القبور :
عن عائشة وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قالا : ( لما نُزِلَ (مرض الموت) برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طفِق(جعل) يطرح خميصة (ثوب) له على وجهه، فإذا اغتم (احتبس نفسه) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مثل ما صنعوا )( البخاري ) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنهم تذاكروا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرضه فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصوير، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )( البخاري ) .
قال ابن رجب : " هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين ، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى " ..
وقال القرطبي في معنى الحديث : " وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة مَنْ فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام " ..
الصلاة :
أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، فرضت من بين أركان الإسلام في السماء السابعة ، وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة ، وكانت قُرَّة عين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته، فهو القائل : ( وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاة )( أحمد ) ..
ومن ثم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ما به من شدة المرض يصلي بالناس جميع صلواته حتى قبل وفاته بأربعة أيام، وكانت وصيته التي أكد عليها كثيرا الصلاة، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كانت عامة وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حضره الموت : ( الصلاة ، الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغرغر صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه )( أحمد ).
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان آخر كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم )( أحمد ) .
إحسان الظن بالله :
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل )( مسلم )..
فحسن الظن بالله عند الموت أفضل ، لأن الخوف سوط يساق به العبد ، وعند الموت يأتي الشيطان يسخط العبد على ربه فيما يجري عليه ، ويخوفه فيما بين يديه ، ليقنطه من رحمة الله ، فحسن الظن بالله والرجاء حينئذ أقوى سلاح يدفع به الشيطان ..
قال ابن حجر : " .. وأما عند الإشراف على الموت فاستحب قوم الاقتصار على الرجاء، لما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى ، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر ، فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته ، ويؤيده حديث ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) ..
وهكذا تظل حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما فيها من سراء وضراء، مدرسة للمسلمين، يستلهمون منها الدروس والعبر للانتفاع بها في واقع حياتهم ..