لم يكن الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني محدِّثا فحسب، بل كان فقيها بارعا، لا يضارعه في ذلك أحد من أصحاب الكتب الستة سوى البخاري، وقد جمع في سننه أغلب الأحاديث التي يستدل بها الفقهاء، وبالأحرى أحاديث الأحكام، وأشار إلى فوائد فقهية جمّة، حتى صار ما دوّنه في سننه مرجعاً لكل فقيه ومحدث، وقد أبان عن منهجه وطريقته في تصنيف "السنن" في رسالته إلى أهل مكة وغيرهم في وصف سننه، ولنا وقفة مع أبرز معالم منهج الإمام أبي داود في سننه.
منهج الإمام أبي داود المتعلق بالأسانيد
أولا: شروطه في أسانيد سننه:
1- أصح ما عَرَفَ من أحاديث الأحكام غالبا: اقتصر على ذكر أصح ما عَرَفَ من أحاديث الأحكام، وهذا غالبٌ وليس مطرداً، لأنه كان يختار أحيانا الحديث الأقل صحة، فيورده في الباب مع وجود ما هو أصحُّ منه، وذلك حتى يعلوَ بالإسناد، ولا يعني إخراجه لأصح ما عَرَفَ في الباب أن تكون الأحاديث كلها صحيحة متصلة الإسناد، فهناك ما ليس صحيحا، وما ليس متصل الإسناد.
2- الرجال (الرواة): أن يُخرج عمن لم يُجمع النقاد على تركه، وقد يُخرج لبعض الضعفاء والمجهولين في المتابعات والشواهد.
3- تخريج الأحاديث المشتهرة: كان يقصد استيعاب الأحاديث التي عمل بها الفقهاء واشتهرت بينهم - أي بين الأئمة الفقهاء وأصحاب الفُتيا -، حتى وإن كانت في نفسها أخبار آحاد.
ثانيا: منهجه في التعليق على الأحاديث والحكم عليها:
1- الحكم على الأحاديث: لم يلتزم الإمام أبو داود بإخراج الصحيح من الحديث؛ ولذا كان يعلق أحيانا بالحكم على الحديث (صحة وحسنا وضعفا)، كقوله بعد أحد الأحاديث: "وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، ورواه ابن أبي مريم ويحيى بن إسحاق والسُّلَيخي عن يحيى بن أيوب. وقد اختلف في إسناده".
2- المسكوت عنه: اشترط الإمام أبو داود على نفسه أن يبيِّن الضعيف والواهن من الحديث فقال: "وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض.."، ولكن بالاستقراء نجد أن هذا الشرط أغلبي، لأن هناك مواضع فيها وهنٌ غير شديد بيَّـنها، وهناك مواضع فيها وهنٌ شديد لم يبيِّـنها، وقد يكون أحد أسباب سكوته – كما ذكر الحافظ ابن حجر – ما يلي:
- اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه.
- ذهوله عنه (غفل عنه أو نسيَه).
- شدة وضوح ضعف ذلك الراوي، واتفاق الأئمة على طرح روايته.
- اختلاف الرواة عنه - أي اختلاف نُسخ السنن -.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن المواضع التي يسكت عليها الإمام أبو داود وهي ضعيفة، لا تخرج عن أحد أمرين: إن وُجد فيها أفرادٌ (لا يوجد في الباب غيرها) فإنها تكون صالحة للاحتجاج عنده، وإلاّ تكون صالحة للاستشهاد أو المتابعة، ثم عقّب الإمام ابن حجر بقوله: "وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقا".
وتحقيق القول في مدى صلاحية ما سكت عنه يرجع إلى مقصده من قوله: "وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح" .. هل هي صلاحية الاحتجاج أم صلاحية الاعتبار؟ وعلى كلٍّ فالصالح للاحتجاج عنده هو الصحيح والحسن - كغيره -، والضعيف إذا لم يوجد في الباب غيره.
3- توضيح العلل وذكرها: كان الإمام أبو داود يتعرض أحيانا لذكر العلل التي تقدح في صحة الحديث، ويذكر ترجيح ما فيه خلاف بين الرفع والوقف أو الإرسال والوصل.
ثالثا: منهجه في ترتيب أحاديث سننه:
1- الترتيب على أبواب الفقه: رتّب الإمام أبو داود كتابه على أبواب الفقه، وكانت عنايته بالمتون أكثر، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض، وكانت عنايته بالفقه أكثر من عنايته بالأسانيد، فلهذا كان يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لا يذكر الإسناد المعلول بالكلية.
2- ترتيب الأحاديث في الباب: كان يتوخّى تقديم الإسناد الأعلى، حتى ولو كان أضعف، وقد يترك الأقوى لكونه نازلاً، وأما إذا رُوي من وجهين صحيحين: أحدهما أقدم إسناداً، والآخر صاحبه أقوم في الحفظ، فإنه يقدِّم الإسناد الأعلى منهما.
رابعا: منهجه في الآثار الموقوفة:
أخلى الإمام أبو داود كتابه من الآثار الموقوفة، إلا فيما ندر، ولم يتعرّض لذكر كلام الأئمة الفقهاء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، الذي استنبطوه من السنن بوجه من وجوه الاستنباط، ولم يكن تركه لذلك عن كراهة أو إنكار، وإنما هو منهجٌ التزمه وسار عليه.
خامسا: منهجه في تكرار الحديث:
كان الإمام أبو داود يُعيد الحديث إذا اشتملت الروايات الأخرى على معانٍ زائدة، وربما ساق الرواية الثانية بتمامها إذا اشتملت على حكم مختلف عن حكم الرواية الأولى، وأما إذا كان الاختلاف في لفظة، فإنه يذكر تلك اللفظة فقط من الرواية الثانية بعد ذكر إسنادها، وقد لخَّص ذلك بقوله: "وإذا أَعدتُ الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة، فإنما هو من زيادة كلامٍ فيه، وربما فيه كلمةٌ زائدةٌ على الأحاديث".
سادسا: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة – ومنهم الإمام أبو داود – إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف: جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في سننه: "حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة، قالا: حدثنا عمر بن سعد.." الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل: جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل -أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها، وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عند الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار: إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، فقد يقول: ورواه فلان عن فلان أيضا، قال الإمام أبو داود في سننه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "كذا رواه أبو أسامة، وابن نمير عن هشام".
سابعا: منهجه في الجرح والتعديل وتعريف الرواة:
كان من عادة أبي داود ذكر شيء من تعديل بعض الرواة أو تجريحهم كلما دعت حاجةٌ إلى ذلك، وقد يذكر شيئاً من التعريف ببعض الرواة كبيان أن فلانا من الصحابة أو التابعين، أو أنه كوفيٌّ أو بصريٌّ، أو بيان تاريخ مولد أو وفاة أو اختلاط راوٍ معيّن، وغير ذلك مما ينفع في توضيح اتصال أو انقطاع بين راويين، أو تمييز راو من غيره، ولكنه لم يُكثر من ذلك.
ومن أمثلة ما أورده في الجرح والتعديل بعد إيراده للحديث قوله: "عمرو بن ثابت رافضي، رجل سوء، ولكنه كان صدوقا في الحديث، وثابت بن المقدام رجل ثقة"، ومثال ما أورده في تعريف الرواة قوله: "مات إبراهيم التيمي ولم يبلغ أربعين سنة، وكان يكنى أبا أسماء".
منهج الإمام أبي داود المتعلق بالمتون
أولا: منهجه في تراجم الأبواب ومسالكها:
كان الغالب على تراجم أبواب السنن (التراجم الظاهرة)، وقلّما تجد فيها تراجم استنباطية أو مرسلة، ولكن الإمام أبو داود نوّع بين المسالك التي استخدمها في تلك التراجم، وينتظم إيضاح ذلك فيما يلي:
1- التراجم الظاهرة: هي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
- الاستفهام، مثل: "بابٌ أيردّ السلام وهو يبول؟".
- الصيغة الخبرية العامة، مثل: "باب السواك".
- الصيغة الخبرية الخاصة، مثل: "باب في الاستنجاء بالماء".
- الاقتباس من لفظ الحديث، مثل: "بابٌ الماء لا يُجنب".
2- التراجم الخفية (الاستنباطية): هي أن يأتي في لفظ الترجمة احتمالٌ لأكثر من معنى، فيعيّن أحد الاحتمالين بما يذكر تحتها من الحديث، أو أن يكون الاحتمال في الحديث والتعيين في الترجمة، ومن المسالك التي استخدمها في هذا النوع من التراجم:
أ- كون الترجمة أعمُّ من الـمُترجم له، مثل قوله: "باب التشديد فيمن يرفع قبل الإمام أو يضع قبله"، ثم أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجدٌ أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار)، فالترجمة هنا أعمّ، لأن فيها الرفعَ قبل الإمام والوضع قبله، والحديث ليس فيه إلا ذكر الرفع.
ب- كون الترجمة أخصّ من المترجم له، مثل قوله: "باب في الرجل يذكر الله عز وجل على غير طُهر"، ثم أخرج حديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل على كل أحيانه"، فالترجمة هنا أخصّ، لأن فيها الذكر على غير طُهر فقط، والحديث فيه الذكر على كل حين.
جـ- تطابق الترجمة مع أحاديث الباب بطريق الاستنتاج لعلاقة اللزوم، مثل قوله: "باب سترة الإمام سترة لمن خلفه"، ثم أخرج حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة – فصلّى إلى جدر – فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمرُّ بين يديه، فما زال يُدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرّت من ورائه"، فاستنتج من منع البَهمة من المرور بين يدي الإمام والسماح لها بالمرور أمام المصلين، أن سترة الإمام سُترة لمن خلفه.
3- التراجم المرسلة: لم يُكثر الإمام أبو داود منها، وأوردها مرات قليلة، مثل قوله: "باب. حدثنا مسدد وعباد بن موسى قالا: حدثنا هُشيم.." الحديث.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد واللطائف:
عَنِـيَ الإمام أبو داود بذكر الفوائد واللطائف للتوضيح أو التنبيه ونحو ذلك، ومن ذلك:
1- غريب الحديث: شرح الإمام أبو داود كثيرا من الألفاظ الغريبة واعتنى بإيضاحها، ومن ذلك قوله: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفَرَق ستة عشر رِطلاً".
2- ذكر الناسخ والمنسوخ: كان الإمام أبو داود يصرِّح أحيانا بأن الحديث منسوخ، أو بأنه الآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتفي أحيانا أخرى بتأخير الناسخ.
ثالثا: منهجه في الاستنباطات الفقهية:
كان الإمام أبو داود يتعرض لبعض ما يمكن الاستدلال به، ويذكر الاستنباط الفقهي منه، لكونه اشترط على نفسه تخريج أحاديث الأحكام التي يستدل بها الفقهاء وأرباب الفتيا، ومن أمثلة ذلك ما أورده بعد أن أخرج حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فما يَقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)، ثم قال: "قال أبو داود: وهذه حجةٌ للرجل يأخذ الشيء إذا كان له حقًّا"، وغير ذلك كثير.