الانطواء مشكلة متشابكة معقدة، فهي نتيجة طبيعية لعدة مشكلات أخرى تتضافر وتتوحد لتنتج لنا طفلا منطويا ومنعزلا اجتماعيًا، وقد تظهر تلك المشكلة في فترات متفرقة من عمر الطفل وبشكل متدرج؛ فتبدأ من سن السنتين، وتتوهج في مرحلة المراهقة، وفي حالة تركها بلا علاج فعال قد تستمر مع الطفل مدى الحياة، وتصبح العزلة والانطواء سمة ملازمة للفرد طوال عمره، وهي مشكلة نسبتها أعلى بين الإناث قياسًا بانتشارها بين الذكور؛ نتيجة لاختلاف الطبيعة النفسية لكل منهم، وحساسية المرأة ورهافة نفسيتها.
ويظهر الانطواء على شكل نفور من الزملاء أو الأقارب، وامتناع أو تجنب الدخول في محاورات أو حديث، وهي مشكلة تسبب خلل في التفاعل الاجتماعي للفرد مع من حوله، مما يؤثر على سلوكه العام، بل ونموه العقلي أيضا.
ويمكن تعريف العزلة الاجتماعية ( الانسحاب المجتمعي ) : هي شكل متطرف من الاضطراب في العلاقة مع الآخرين، فالفرد يميل إلى تجنب التفاعل الاجتماعي، نتيجة لافتقاره لأساليب التواصل المجتمعي، وبذلك ينفصل عن رفاقه ويبقى منفرداً معظم الوقت ولا يشارك أقرانه بالنشاطات الاجتماعية المختلفة.
ويختلف هذا الاضطراب في السلوك من فرد لأخر، فقد يتراوح هذا السلوك بين عدم إقامة علاقات اجتماعية وبناء صداقة مع الأقران؛ إلى كراهية الاتصال بالآخرين والانعزال عن الناس والبيئة المحيطة وعدم الاكتراث بما يحدث فيها
أسباب الانطواء:
1- أسباب فسيولوجية أو جسمية:
قد يُظن أن السبب الأساسي للانطواء هو الأسباب الاجتماعية الخاصة بالمجتمع، أو التربوية التي قد تتمثل في طريقة تعامل الأسرة مع الطفل المنطوي فقط، ولكنها ترجع أيضًا لعوامل بيولوجية !! فهي مشكلة مرتبطة بعوامل وراثية.
فالتكوين البيولوجي للفرد، والوظائف الفسيولوجية للقشرة الدماغية؛ يسهم في ظهور مثل تلك المشكلة؛ فالفرد الذي يتمتع بدرجة استثارة سريعة وقوية نسبيًا .......... غالباً ما ينزع إلى ممارسة سلوكيات ذات صبغة انطوائية.
وقد ترجع أسباب الانطواء والعزلة إلى شعور الفرد بالنقص، نتيجة لوجود عاهة أو مرض مزمن لديه، مثل إصابته بمرض البهاق أو غيره من الأمراض التي تغير من شكل الطفل، وتؤثر على تفاعل الأطفال الآخرين معه نتيجة لشكله، أو قد ترجع العزلة لوجود عيب في النطق أو التحدث يمنع من تواصل الطفل الفعال مع من حوله من أقرانه.
2- أسباب مجتمعية:
فالمجتمع الذي يتيح للطفل فرص للتفاعل المجتمعي مع أقرانه، بل ومع من هم أكبر منه سناً ( لنقل الخبرات )، هو مجتمع يشعر من خلاله الطفل بمتنفس يستطيع من خلاله التفاعل بشكل سليم وفعال، وتحت رعاية مجتمعية تعمل على حمايته من أخطار قد يتعرض لها.
أما حين يشعر الطفل بأنه مهمش وسط المجتمع الذي يعيش فيه ولا رأي له، يفقده ذلك الثقة في نفسه، مما يفقده الشعور بالأمان، ويدفعه ذلك للعزلة والانطواء بعيدا عن أقرانه ، هربا من العقاب أو التجاهل. وقد يؤدي تغيير الموطن إلى مثل تلك العزلة، والتي يجب أن تعالج وفورا حتى لا تتفاقم.
3- أسباب أسرية تربوية:
وهي التي تستحوذ على النسبة الكبرى من الأسباب ..
فالأسرة هي البيئة المجتمعية الأولى التي يتفاعل فيها الطفل، وهو فيها يكتسب ثقافته وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، فهو يتعلم من خلالها طرق التعبير عن نفسه، وتبنى فيها اللبنات اللغوية الأولى والخبرات المجتمعية التي تتيح له دخول المجتمع الذي يعيش فيه والتفاعل معه، فالأسرة تصبغ طفلها بسمات المجتمع الذي يحيا فيه، فهي عامل الوصل بين الطفل والمجتمع، حيث يكتسب الطفل من خلالها أنماطاً اجتماعية مشتركة مع الأطفال الآخرين، مما يتيح وجود نوع من أنواع الثقافة المشتركة بين أفراد المجتمع ككل، تتيح لهم التفاعل مع بعضهما البعض وفقًا لتلك الثقافة والعوامل المشتركة، فينتج نوع من أنواع التوافق الفكري والعقلي – إلى حد ما – بين الأفراد، مما يسهل عملية التواصل والتفاعل.
ولكن هناك بعض الظواهر الأسرية التي تمنع وجود ذلك النوع من التوافق، فالبعد العاطفي والاجتماعي بين أفراد الأسرة، وأيضًا بين الأسرة ككل والمجتمع المحيط بها؛ ووجود خلل في العلاقات الأسرية، بحيث أن العلاقات السائدة داخل الأسرة لا يسودها الود والألفة، بل العراك والمشاحنات، يساهم بشكل مباشر في ظهور الانطواء عند الطفل.
فالطفل يحتاج إلى الحب والشعور بالأمان داخل أسرته منذ الأسابيع الأولى في حياته، فالحب والأمن هما عاملان أساسيان في نمو الطفل اجتماعيًا وفسيولوجيًا وعقليًا بشكل سليم وصحي. تقول المرشدة الاجتماعية " ثناء الرز ": ( إن علاقات الحب التي يكونها الطفل مع أمه وأبيه ومجتمعه الصغير في البيت، مسئولة إلى حد كبير عن تكيفه للمجتمع خارج نطاق الأسرة؛ حيث أن الطفل يخرج إلى الحياة ومعه ما تراكم في نفسه من آثار تلك الحاجة القوية إلى الحب ومدى نجاحه في إشباعها.. ). وقد تتطور تلك المشاعر السلبية بداخل الأسرة لتتحول إلى تعرض الطفل للعنف الجسدي، مما يسبب له عدة مشاكل نفسية وسلوكية تدفعه بشكل مباشر للعزلة.
والأسوأ من ذلك هو تعرض الطفل للعنف المعنوي، الذي يعد أخطر بكثير من العنف الجسدي توجيه كلمات قاسية وجارحة للطفل كعقاب له وهذه الكلمات يكون لها تأثير حد السيف في نفس الطفل فهي تفقده ثقته بنفسه وتجعله أكثر ضعفا وتدفعه ليس للعزلة وحسب بل تدفعه إلى الكبت النفسي والعاطفي وكبت المهارات.
وكذلك الحال مع الرقابة الصارمة من الأسرة على سلوكيات وأفعال أطفالهم، فالنقد والتعنيف الشديد لأخطائهم، تجعلهم يتجنبون التفاعل الاجتماعي مع من حولهم، تجنبًا للوقوع تحت طائلة العقاب كما ذكرنا من قبل ، وكذلك التفريق بين الأطفال داخل الأسرة يسبب لهم نوعا من الانطواء والعزلة.
وقد يكون أحد الوالدين – والمقرب للطفل بالتحديد – منطويا أصلا ، فهو يقلده حتى ينال استحسانه، كما أن دعم الوالدين لانطواء الطفل على أنه أدب وحياء من الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه المشكلة.
خطوات للعلاج:
تبدأ خطوات العلاج بالتعرف على السبب الرئيسي لانطوائه ومحاولة علاجه وبشكل فعال
1- التربية الاستقلالية هي الحل الفعال، فكما قلنا كما أن لعامل الحب داخل الأسرة دور مهم في علاج الانطواء لدى الأطفال، وأنه بدون الحب والمودة في الأسرة تزيد نسبة تعرض الطفل للانطواء، إلا أن زيادة الحب والتدليل الزائد عن الحد يؤدي لجعل الطفل معتمد على والديه عاجزًا عن الاعتماد على الذات، فيقف ذلك العجز حاجزًا بينه وبين التفاعل مع أقرانه، لهذا على الوالدين حماية أبنائهم من التدليل وتربيتهم تربية استقلالية مما يفتح لهم أبواب المجتمع كافة ليدخلوا من أيهم شاءوا، مع مراعاة أن يكون ذلك بالتدريج.
2- يعمل الوالدين على إعادة الثقة للطفل المنطوي في نفسه، فالطفل المنطوي حساس لدرجة كبيرة، لذا يجب على الوالدين تهيئة الجو الأسري المناسب لنخرجه من حالة الانطواء وفقدان الثقة تلك، فيبدأ الوالدين بالتأكيد على حريته في التعبير عما يجيش في صدره بدون خوف أو تردد، مع إعادة تعريفه بنفسه وبنقاط القوة لديه والتأكيد عليها، ومحاولة الإعلاء من نقاط الضعف لديه أو تجاوزها. وكذلك ينبغي على الوالدين الاهتمام بميول واهتمامات طفلهم، ويعملوا على أن يمارسها وهو يشعر بالأمان بعدم خوفه من العقاب في حالة إن أخطأ أو فشل، والتهدئة من انفعالاتنا نحوه في حالة إن أخطا، وبهذا يتحول الوالدين إلى عامل دفع ايجابي لثقة طفلهم في نفسه وفيمن حوله، فيبدأ في التفاعل معهم.
3- فتح الباب له لتكوين صداقات جديدة ، فتواصل طفلك مع من حوله وفي سنه له فوائد نفسية وعقلية وجسمية وروحية، تنعكس على توازن نمو شخصياتهم وهم في طور النمو، لذا حاول أن تشجع أطفالك على عقد صداقات مع من حولكم من الأقارب والمعارف حتى تكون مطمئنا على نوعية وطبيعة تلك الصداقات، مع ترك الحرية للطفل لكي يختار صديقه، مع ضرورة الاطمئنان علي حسن اختيار الطفل للصديق.
4- تعليم الطفل لمهارات اجتماعية محددة مثل تعليمه مهارة الاتصال وخاصة كيفية الإصغاء والاستماع، وكيفية إقامة صداقات مع الزملاء، وكيفية توجيه التحية والسلام والسؤال عن المعلومات، ومن ثم تعليمه مهارة تقبل الرفاق والزملاء.
5- على الوالدين الاهتمام بميول طفلهم الرياضية بالتحديد؛ لأنه معروف أن الرياضي اجتماعي بطبعه، ومحاولة جعله ينتمي إلى إحدى فرق الألعاب الجماعية ( ككرة القدم، أو اليد .. )، لكي يتعلم روح الفريق والتعاون.
6- عدم تحميل الطفل فوق طاقته وقيامه بأعمال تفوق قدراته؛ وذلك حتى لا يشعر بالعجز مما يجعله يستكين ويزداد عزلة عن الناس، بل ننمي قدراته وقيامه بالأعمال التي تناسب قدراته وعمره الزمني.
7- إذا كان سبب شعور الطفل بالنقص اعتلال أحد أعضاء جسمه فينبغي تدريب العضو المعتل لأن التدريب يزيد من قوة العضو المعتل، وبذلك يتخلص من شعوره بالنقص وتتحقق سعادته.
8- الاعتماد على اللعب التعبيري ( التمثيلي ) لتوصيل كيفية أن العضو الفعال في المجتمع محبوب ومحترم لدى الآخرين، وكذلك الاهتمام بالألعاب الجماعية التي يشترك فيها مجموعة من الأطفال، حتى يحتك مع أطفال آخرين من ثقافات مختلفة.
9- في بعض الحالات يكون تربية الحيوانات الأليفة المنزلية لها عامل كبير على تحسن التفاعل والنمو الاجتماعي لدى الطفل، فقد نشرت أحدى الصحف البريطانية كيف أن ببغاء صغير نجح في كسر عزلة طفل بريطاني يعاني صعوبة في النطق؛ حيث لقنه أول كلمات يتفوه بها بعد بلوغه من العمر أربع سنوات! وحسب الصحيفة فإن الأطباء يتوقعون أن يبدأ الطفل ديلان في تعلم كلمات من مقطعين من الببغاء، وترجع هذه الظاهرة إلى شعور الطفل بالسعادة في وجود الببغاء فالببغاء نجح في لفت انتباه الطفل إليه والذي حاول بدوره تقليد أصوات الببغاء.