لم ينكر معدو مبادرة السلام الإسرائيلية التي نحن بصددها أن أجواء الثورات العربية والعزلة الدولية (النسبية طبعاً) التي تعيشها الدولة العبرية هي الدافع خلف طرح مبادرتهم العتيدة، ما يؤكد أن إشاعة نتنياهو وبعض أركان حكومته لأجواء من الاسترخاء حيال ما يجري في المحيط العربي ما هي إلا محاولة لتبديد مخاوف المجتمع الإسرائيلي الذي يشعر بحقيقة النار التي تندلع في محيطه الاستراتيجي وتوشك أن تأتي على سنوات الراحة النسبية التي عاشها طوال عقود.
أسماء الذين قدموا المبادرة تؤكد ذلك، فهم ثلة من أهم العقول الأمنية والاستراتيجية في الدولة العبرية يتقدمهم رئيس سابق لهيئة أركان الجيش «أمنون ليبكين شاحك»، إضافة إلى رئيسين سابقين لجهاز المخابرات العامة (الشاباك) هما «يعقوب بيري» و«عامي أيالون»، ورئيس سابق لجهاز الموساد هو «داني ياتوم»، وعدد من رجال السياسة البارزين والأكاديميين ورجال الأعمال.
هؤلاء جميعاً يدركون أن اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية هذه الأيام، لن تؤدي إلى إشعال الوضع في الداخل الفلسطيني فحسب، بل سيشعل المنطقة برمتها، وسيكون من الصعب على الكيان الصهيوني أن ينتصر في مواجهتها كما فعل في المرات السابقة حتى لو كانت سلمية الطابع، لاسيما أن الوضع السياسي المحيط الذي كان يساهم في لجم الغضب الفلسطيني والعربي قد تراجع إلى حد كبير، وسيتراجع أكثر أمام سطوة التعاطف الشعبي العربي مع الأشقاء الفلسطينيين.
على أن ذلك كله لم يدفع هؤلاء إلى تقديم عرض يسيل له لعاب الطرف الفلسطيني، أعني الطرف الرسمي ممثلاً في السلطة ونخبتها الأساسية التي سيطرت على المنظمة وحركة فتح أيضاً، والسبب بالطبع أن المجتمع الإسرائيلي وعموم النخبة السياسية والأمنية لم تصل حتى الآن حدود تجاوز الثوابت الأساسية لطبيعة التسوية، لاسيما أن كثيراً منهم مقتنعون بأن التنازلات التي يمكن أن تقدم وتغري الطرف الفلسطيني قد تكون بدورها مقدمة لأوضاع سياسية وأمنية صعبة، بخاصة في ظل تطورات المحيط العربي، وحيث لا تعترف الشعوب العربية التي تقترب من فرض رؤيتها على الأنظمة بأي جزء من الأرض الفلسطينية كدولة لليهود، فضلاً عن أن يكون هذا الجزء هو 80 في المئة من أرض فلسطين التاريخية.
ما يأمله أصحاب المبادرة في المقابل هو كسر الجمود في عملية السلام، وفك العزلة الإسرائيلية، وبالطبع بعد فرض المبادرة على حكومة نتنياهو، ومن ثم الأمل بأن يكون الحل المقترح مقدمة لسلام مع الفلسطينيين يقبله المحيط العربي.
والحال أن مبادرة القوم لا تعدو أن تكون نسخة من عرض كامب ديفيد عام 2000 الذي رفضه ياسر عرفات. وفي اعتقادي أنه لو قدمت المبادرة للسلطة قبل عام أو عامين لوافقت عليها في ظل مرجعيتها السياسية المتمثلة في مصر وعدد من الدول العربية التي لم تكن تعاني ضغطاً من جمهورها، بقدر ما تعاني من تبعية للمطالب الأمريكية.
اليوم، وفي حين لم يتغير الموقف الفلسطيني الرسمي، فإن من المستبعد أن يتورط المحيط العربي في منح غطاء لتسوية تشطب قضية اللاجئين، حتى لو حاكت في هذا الصدد طرح المبادرة العربية، في ذات الوقت الذي لا تقدم فيه حلاً مقنعاً لقضية القدس الشرقية القديمة، وبالطبع لأن السيادة عليها ستبقى عملياً بيد الاحتلال، وإن كان بوسع السلطة القول: إن عاصمة دولتها هي القدس تبعاً لما تعرضه المبادرة (هو ذاته عرض كلينتون) ممثلاً في أن الأحياء العربية للعرب واليهودية لليهود.
وإذ يتكرم أصحاب المبادرة بالحديث عن تعديلات «طفيفة» بحجم (7 في المئة) على حدود 67، فإنهم يتجاهلون أنها ستكون كافية للإبقاء على الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة، والتي تفتت الكيان الفلسطيني عملياً إلى ثلاثة كانتونات تجعله عاجزاً عن استيعاب أهله، فضلاً عن أن يستقبل اللاجئين في الخارج أو بعضهم. وحتى لو تجاوزنا ذلك كله، فإن شياطين بلا عدد تبقى كامنة في التفاصيل، أكان لجهة الترتيبات الأمنية، أم لجهة مناطق الغور (30 في المئة من الضفة الغربية) وما إذا كانوا سيطالبون بتأجيرها لعقود على طريقة نتنياهو أم لا؟!
والحال أن المبادرة في جوهرها لا تبتعد كثيراً عن طروحات نتنياهو، ولا يستبعد أن يوافق عليها، والسؤال هنا يتعلق بموقف السلطة التي ستؤجل ردها إلى حين تحول المبادرة إلى موقف رسمي، هذا إذا تحولت بالفعل ولم توضع على الرف مثل كثير من المبادرات قبلها (مبادرة جنيف مثالاً).
من يحمي الاحتلال من غضبة الجماهير الفلسطينية هي السلطة، ما يؤكد أن طروحاتها حول المقاومة السلمية هي للاستهلاك لا أكثر، مع العلم أن بوسع التوافق على انتفاضة من هذا النوع أن يكون مقدمة لإنهاء الانقسام، أما إنهاء الانقسام على قاعدة برنامج فياض/ مايكل مولر (خليفة دايتون)، المصادق عليه من طرف الرئيس فهو تضييع للقضية أدرك المطالبون به أم لم يدركوا.
ــــــــــــــــــــــــــ
الدستور الأردنية