مع تزايد وتيرة الذبح الإسرائيلي تجاه شعبنا الفلسطيني، واستشهاد (قرية) إثر (قرية)، و(مخيم) إثر (مخيم)، خاصة بعد ملحمة جنين التي قادها الاستشهادي الأكبر في كربلاء الجديدة الشهيد القائد الشيخ/ محمود طوالبة قائد (سرايا القدس) في جنين، بعد هذه المذابح، كثر الحديث، عن نهاية الانتفاضة والمقاومة في فلسطين، وأن الأمر لم يعد سوى أمر أيام، بل ساعات، وتلفظ هذه المقاومة أنفاسها ويعود عرفات وجماعته إلى خيار التسوية البائس، الذي يدور في الفراغ، وهذه المرة سيدور في فراغ قاتل لأن عرفات سيجبر على الذهاب إلى غزة، والاكتفاء بها، وببعض أجزاء من سيناء كما طالب قبل أيام (آفي ايتان): الوزير في حكومة شارون ورئيس حزب المفدال المتطرف.
وللأسف، هذه الرؤية المهزومة من داخلها، باتت تسيطر على قطاعات عديدة من نخبتنا، خاصة مع تراجع وتيرة التظاهرات في بعض عواصمنا العربية (خاصة القاهرة) نتيجة لانشغال الطلاب (الذين هم وقود الثورة والتغيير عبر التاريخ العربي المعاصر) بقرب نهاية العام الدراسي وبداية موسم الامتحانات الطلابية، وباتت مصمصة الشفاه، والتألم لحال البيوت المهدمة والجثث المتناثرة لشهداء المخيمات والقرى هي الفعل الثابت الوحيد لهذه (القطاعات) من نخبتنا المحترمة !
ولكن...
هل انكسرت الانتفاضة؟
هل الصورة بالفعل قد وصلت إلى هذا الحال من الانهيار؟ وهل انكسرت فعلا الانتفاضة والمقاومة وتوقفت آلياتها عن عملها المؤثر بعد ضرب بنيتها التحتية في مدن ومخيمات الضفة؟ وماذا بأيدينا أن نفعل لها كي تستمر وتنتج ؟ ذلك هو السؤال الذي نحاول أن نجيب عليه.
بداية يهمنا الاعتراف دون خجل بأن ثمة خسائر مؤلمة قد ألمت خلال شهر (أبريل) بالمقاومة وبالشعب الفلسطيني المناضل الذي يمثل الحاضن الأكبر للانتفاضة والمقاومة، ولا مجال لإنكار ذلك، بل من المهم إيراده حتى نتبين حجم ونوع الإجرام الذي تم تجاه أنبل ظواهر واقعنا العربي والإسلامي المعاصر، "الانتفاضة الفلسطينية" وأيضا كي نرى عظمة هذا النبل، حيث نشاهد استمرار المقاومة رغم كل هذا الألم.
من مظاهر الألم الفلسطيني
والألم أو الخسائر الفلسطينية في مدن الضفة خلال شهر أبريل تمثلت في اعتقال قرابة 5 آلاف عنصر بينهم 1400 من المنتمين إلى المنظمات المناضلة (340 من حركة حماس - 342 من حركة فتح - 102 من حركة الجهاد الإسلامي - 356 من الأجهزة الأمنية الفلسطينية) هذا فضلا عن مئات الشهداء (تقدرها بعض المصادر الصحفية بنحو 4 آلاف شهيد والبعض الآخر يرى أنها لا تزيد على 600 شهيد فقط)، ومن الخسائر التي أصابت المقاومة الفلسطينية والانتفاضة الباسلة تدمير الجيش الإسرائيلي لنحو 4 آلاف قطعة سلاح كانت بحوزة الفلسطينيين و20 مصنعا صغيرا لإنتاج المتفجرات والأحزمة الناسفة وتدمير 450 عبوة ناسفة كانت جاهزة للعمل فضلا عن مصادرة مائة مدفع رشاش، ونحو 20 محركا لصواريخ القسام ومعدات قتالية أخرى.
وإذا أضفنا لهذه الخسائر، خسارة الغطاء الشعبي الآمن بتدمير بيوت وأماكن العبادة (مساجد - كنائس) كانت تمثل ملاذا آمنا وبيئة ملائمة للغطاء الشعبي الآمن.. كل هذا - ولا شك - خسائر فادحة لحركة الانتفاضة والمقاومة.
فشل حملة شارون
ولكن.. كل هذه الخسائر المؤلمة، لم تؤثر على أهم ما أراده العدو الصهيوني، وهو روحية المقاومة وإرادتها في الصمود، فالخسائر المادية سيتم حتما وبسهولة تعويضها، والشهداء يخلقون بدمهم أجيالا جديدة من الاستشهاديين (وليس فقط الشهداء)، ولأن (بركة) دمهم هي النبع الحقيقي لإمداد المقاومين بماء الحياة والجهاد.. هكذا يفهم شعبنا الفلسطيني الشهادة، وهكذا حقيقة قصة الصراع، والسجناء والمعتقلون سيخرجون يوما وسيواصلون الرحلة من جديد.
ليس الأمر هكذا فحسب، بل إن استمرار الضربات النوعية للانتفاضة / المقاومة ، حتى لحظة كتابة هذه السطور، يؤكد أن كل أهداف حملة شارون في الاجتياح والذبح، قد أخفقت، فها هي العملية النوعية الفذة للمقاومة الفلسطينية داخل مستوطنة أدورا قرب الخليل والتي أودت بـ 4 قتلى و 8 جرحى من قطعان المستوطنين (وحدثت ليلة الأحد 28/4/2002م) تؤكد ذلك وبجلاء.
نفس المعنى نجده في ذروة عملية الذبح الصهيوني، والإجرام المنظم ضد الشعب الفلسطيني، فأثناء اجتياح وتدمير مخيم جنين، ظل المجاهد الشيخ (الشاب في سنه الذي لم يكمل الثلاثين عاما) محمود طوالبة ابن حركة الجهاد الإسلامي قائد سرايا القدس في جنين، يقاتل 9 أيام متواصلة مع رفاقه دون أن يلقي السلاح، بل لقد قام هو ومجموعته - كما أكد الجيش الإسرائيلي - بتدبير الكمين الشهير الذي أودى بحياة 13 جنديا إسرائيليا من خلال تفخيخه لأحد المنازل التي اقتحمها هؤلاء الجنود، ثم ، ومن عظمة نضال هذا المجاهد الذي يعد بالفعل القائد الحقيقي لمعركة جنين، وليس سواه من المدعين من الحركات الأخرى قام بتفجير نفسه - كما يروي البعض- في تجمع من الجنود الإسرئيليين بعد أن أوهمهم أنه يسلم نفسه.
لقد خلقت أسطورة محمود الطوالبة ما أسماه المراقبون الصهاينة بـ "ماسادا فلسطينية" جديدة أو ما وصفه يوري افليري الكاتب السياسي الإسرائيلي المعروف بـ "ستالينجراد فلسطينية أخرى" وما نسميه نحن بـ "كربلاء جديدة".. هذا الفعل المقاوم، حتى آخر طلقة وآخر نفس هو الوجه المضيء في هذه الملحمة، وهو الذي أكد أن قتل روحية الفلسطيني وإرادته لم يحدث ولن يحدث.
وهاهم رفاق وتلامذة محمود طوالبة يدوسون بأقدامهم على (المعونة الأمريكية) التي أرادت الولايات المتحدة أن تدخلها إليهم منذ أيام، رافضين بإباء وشمم يحسدهم عليه الجميع، أنهم رغم الجوع والتشرد والعراء والبيوت المهدمة، يرفضون أن يأخذوا من القاتل، صدقة مسمومة، ويصرون على بقاء إرادتهم وروحهم صامدة كما علمهم (محمود طوالبة) ورفاقه، والطريف أن هذا المخيم (جنين) هو نفسه المخيم الذي وقف إلى جوار عز الدين القسام عام 1936 في جهاده ضد الصهاينة ومع (الحسيني) في الأربعينيات، ونفس الحال يقال عن نابلس وطولكرم ورام الله وبيت لحم وغيرها.. إنها إذن إرادة غير قابلة للهزيمة أو الانكسار.
فإنهم يألمون
والأمر لم يتوقف عند حدود صمود المقاومة واستعدادها للمنازلة مرة أخرى وبإصرار أشد، ولكنه يتجاوز ذلك إلى انهيار نفسية وبنية العدو المقابل، وصدق الله سبحانه وتعالى حين ذكر في كتابه العزيز: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون}، والألم الإسرائيلي متعدد الأنواع والمستويات.
الخسائر الاقتصادية الصهيونية
فإذا أخذنا بالمعنى المادي الذي يحلو للبعض أن يجعله وحده مرجعا في التحليل السياسي، فإن الأرقام - الباردة - تقول : إن الاقتصاد الإسرائيلي قد تكبد مليارات الدولارات خسائر بسبب الانتفاضة وحوالي 400 قتيل، ويخسر 104 ملايين دولار شهريا لتجنيد الاحتياط ، وعمليات التنمية انخفضت بنسبة 10% عن العام السابق للانتفاضة المباركة (28/9/2000) وواجهت شركات الطيران الإسرائيلية إفلاسا مريعا بسبب التوقف النسبي للرحلات الجوية، وأعمال البناء تخسر شهريا 213.58 مليون دولار بسبب توقف العمال الفلسطينيين عن العمل داخل الكيان الصهيوني بسبب اندماجهم في أعمال المقاومة، والدخل إسرائيليا انخفض بوجه عام إلى 40.35 في كل الفروع، وحركة البيع والشراء داخل الأسواق انخفضت بنسبة 50% وهو ما يساوي 15 مليار شيكل (3.2 مليار دولار) والسياحة تخسر شهريا ما يساوي مائة مليون دولار، فالسائحون انخفضوا من 107 ملايين سائح سنويا إلى حوالي نصف المليون سائح سنويا إلى حوالي نصف المليون سائح خلال العام المنصرم وفقا لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي.
الرعب والقلق
وإذا أضفنا إلى هذا الانهيار الاقتصادي، الرعب الذي يجتاح المستوطنين رغم الآلة العسكرية الجبارة التي تحميهم، وخوفهم من أي شيء يحمل ملامح فلسطينية أو تُشتم منه رائحة عربية، فإن معالم الهزيمة والألم تصبح مؤكدة لدى الطرف الإسرائيلي، إذ إن هذا مناخ توتر لا يساعد على الحياة في أبسط أشكالها، مما يؤدي إلى تعطل حركة الإنتاج، ومن ثم الاستمرار طويل المدى في المكان وتعميره، وتزايد معدلات الهجرة أو (الفرار) منه بالمعنى الأدق.
هذه الحال تمثل مؤشرا على تزايد "الألم الصهيوني" مثلما هو الألم الفلسطيني، بل أشد منه ، لأن الفلسطيني جُبِل على المقاومة وهو لن يخسر شيئا إن هو قاوم وناضل، فهذه هي طقوسه اليومية الاعتيادية منذ مائة عام، وهو في ممارسته لها لن يخسر سوى قيوده، التي كبلته بها اتفاقيات التسوية المذلة التي لا تزال السلطة تحاول التمسك بها والعودة إليها من جديد في مشهد شديد البؤس .
إذا مددنا التحليل على استقامته، سنجد (الانتفاضة/المقاومة) وقد انتقلت عدواها الإيجابية من الحالة الفلسطينية المحدودة إلى الفضاء العربي والإسلامي الأرحب، لقد استنهضت الأمة من جديد، وهو استنهاض لم تستطعه أية قوة أو قضية أخرى، واستطاع الفعل الفلسطيني الملحمي (بشقيه المأساوي والبطولي) أن يستنهض الأمة بعد إغفاءة نوم طويلة.
وتعددت مظاهر اليقظة ، سواء عبر صعود سلاح المقاطعة للشركات والسلع الغربية والأمريكية (تحديدا) والذي استطاع أن يكبد الولايات المتحدة خلال شهر واحد فقط (شهر إبريل الماضي) 200 مليون دولار مما أصاب صناع القرار الأمريكي بالتوتر والشعور بالخيبة من المفاجأة (الحياة 27/4/2002)، وإن علمنا أن أسواق مصر والخليج قد استحوذت على 80% من المستخدمين لسلاح المقاطعة ومن نسبة الشركات والسلع الأمريكية الخاسرة لعلمنا أية دلالة كبرى يحملها هذا المعنى الكبير الذي فجرته الانتفاضة/المقاومة.
وأيضا يضاف إلى إعلاء راية (المقاطعة)، إعلاء راية (التظاهر السلمي) شبه اليومي في كافة عواصمنا العربية، وخاصة تلك العواصم التي كانت توصف بأنها عواصم التسوية الكبرى (القاهرة - عمان)، وهو تظاهر مثل تعبيرا شعبيا عفويا يقول : إن (فلسطين) مشكلة عربية قبل أن تكون فلسطينية وارتبط بالتظاهر حملة تبرعات بالمال والدم، بل والتطوع ، ولعل استشهاد الشاب المصري (ميلاد العبيسي) ابن (نجع الفينيشات) أحد النجوع والقرى المجهولة في بر مصر، لدليل حي على عمق الوعي لدى الشعب المصري بأن فلسطين قضية مصرية قبل أن تكون فلسطينية، وهي كذلك بالنسبة لكافة البلاد العربية.
لقد أعادت الانتفاضة، الصراع كله من جديد إلى مربعه الأول الحقيقي، مربع المقاومة، مربع أن الصراع مع الكيان الصهيوني صراع وجود وبقاء ، وليس صراع حدود وأمتار عشرية من الأرض، وأن ما أُخذ بالقوة في هذا الصراع وعبر المائة عام الماضية لن يسترد بغير القوة، وأن (الأقصى) و(القدس) و(فلسطين)، هي القبلة السياسية لهذه الأمة، مثلما هي (مكة) قبلتهم الدينية، وأن لا إسلام صحيح، ولا عروبة صحيحة، بغير فلسطين.
بتعبير بسيط ومباشر، لقد أيقظت (الانتفاضة/المقاومة) كل ما حاولت اتفاقات التسوية المذلة من كامب ديفيد الأولى (1979) حتى كامب ديفيد الثانية (2000) أن تقتله أو تهيل عليه التراب، لقد أحيت الانتفاضة، ذاكرة الصراع من جديد، وكان لهذا الإحياء ثمن، وهو ثمن من الصعب الآن، الالتفاف عليه أو تجاوزه والعودة من جديد إلى خيار قتله.. خيار المفاوضات، الذي سيعد انتحارا سياسيا بكل معنى الكلمة لمن يقترفه أو يسير فيه أو يوافق عليه.
انتفاضة تفعل كل هذا من المؤكد أنها إذن لم تنكسر.
(عن الاستشهاديين)
يقول من لم يجرب ما نكابده
كان أجملهم بالموت قد فتنوا
ولو حكى الموت بالفصحى لصاح بنا
كفى ازدحاما علي كفى واتزنوا
للشاعر الفلسطيني/مريد البرغوثي
ـــــــــ
* محلل سياسي ومدير مركز يافا للدراسات- ا