تقوم المركزية الغربية على افتراض أن أوروبا مركز العالم على مر العصور، وأن كل ما في الكون يكتسب أهميته من علاقته بأوروبا، وأن الشعوب الأخرى التي تعيش خارجها، أو ليست لها علاقة بها، شعوب غير متحضرة وربما غير بشرية.
وأنتجت هذه النظرة العنصرية المنطلقة من المركزية الأوروبية قراءة لتاريخ وجغرافية وحضارة الشعوب غير الأوروبية سميت فيما بعد بالاستشراق.
وقد نتجت عن هذا العلم المشبع بالمركزية الأوروبية معرفة متخيلة استخدمت في تبرير حملات الإبادة والنهب الاستعماري.
يتكون هذا الكتاب الذي يناقش تأثير الاستشراق على علم الآثار من تمهيد وستة فصول:
فصله الأول جاء تحت عنوان "كيف قرؤوا الألواح وصنعوا التاريخ"، والثاني "المشكلة التوراتية"، والثالث "طريق العطور"، والرابع "الجغرافية السياسية للثقافة العربية". أما الخامس فعنوانه "ألسنة أم لهجات لسان واحد؟"، والسادس "ميلاد تاريخ فلسطين القديمة".
يقول الكاتب محمد الأسعد "النص، والنص التوراتي تحديدا لعب الدور الأكبر في إنتاج ماضي الشرق، وشرقنا العربي بخاصة، فوضع تاريخه ولغاته وفنونه وآثاره المادية في سياقات غريبة لا تنتمي إليه بقدر ما تنتمي إلى صورة متخيلة مستمدة من المرويات التوراتية، حتى وإن كان هذا الماضي أوسع زمانا ومكانا من تلك اللحظة العابرة في تاريخه، تلك التي يفترض أنها مرحلة توراتية".
وأعطت هذه الخصوصية علم الآثار في شرقنا العربي طابعاً مغلقاً وثابتاً، فهو فرع آخر غير علم الآثار، إنه علم خاص يدعى علم الآثار التوراتي، لا تلمسه أي مكتشفات من أي نوع كان، ولا تغير ثوابته أي خبرات جديدة مكتسبة، ولا تطورات حديثة في مجال علم الآثار.
في أساس هذا العلم يكمن عنصران يسمونهما "الرؤية" و"الإحساس بالهدف".
والرؤية هي بالطبع الرؤية اللاهوتية، أي رؤية جوهر أصلي في تاريخ هذه الأرض لا يتغير، كان وظل على مر العصور والأحقاب، تمثله مآثر شعب التوراة لغة وتاريخا ومملكة وفنونا..إلخ. وينظر إلى حضارات المنطقة القديمة على أنها مجرد مشتقات ثانوية من هذه المآثر.
أما الهدف فهو استعادة هذا الجوهر المطمور في تلال المنطقة العربية وفلسطين خصوصاً، وإعادته إلى الحياة.
ومن هنا فوظيفة علم آثار من هذا النوع ليس التنقيب عن الآثار القديمة والتعرف على هويتها، فهذه الهوية معروفة سلفاً في النص التوراتي، بل لرفعها كمستندات تخلق رابطة بين ذلك الجوهر الثابت وبين الكيان الاستعماري الذي أنشأه الغرب على أرض فلسطين وكونه من يهود جلبهم من مختلف الهويات القومية تحت زعم أنهم ورثة ما يسميه في أدبياته "أرض التوراة" أي الجوهر الثابت على مر العصور "مركزية التوراة في الحضارة الغربية".
يقول المؤلف "لقد توجه الغرب إلينا مسلحا بأسطورتين: أسطورة حق القوي في الهيمنة وفرض روايته، وأسطورة توراتية اعتبرت تاريخا ملائما لفهم مجريات الماضي".
ولفهم العمق التوراتي للحضارة الغربية يستشهد المؤلف بما قاله الفيلسوف البريطاني "برتراند راسل" عن الكنيسة الكاثوليكية "فتاريخها المقدس يهودي، ولاهوتها يوناني، وحكومتها وقانونها رومانيان. وجاء الإصلاح الديني فنبذ العناصر الرومانية، وحد من العناصر اليونانية، وزاد من قوة العناصر اليهودية".
فمارتن لوثر دفع بالعنصر التوراتي إلى مرتبة الصدارة في تعاليم الكنيسة، "كانت التوراة بالنسبة للوثر وحدها ما يعطي الكتاب المقدس (الإنجيل) قيمته الحقيقية.. لم تكن التوراة أساس إيمانه بل تجربته الخاصة.. أما الفيلسوف "كالفن" فقد أصبحت التوراة بالنسبة له السلطة السامية المعصومة عن الخطأ في جميع الأمور".
اتفق كل من كالفن ولوثر على تقوية الاتجاهات الرأسمالية والصناعية والتجارية السائدة في عصرهما، كما اتفقا على الفردية وسيادة الدول القومية، وعلى اعتماد التوراة كمرجع أعلى.
وتأثير التوراة ما زال يفعل فعله حتى اليوم، فالكاتب "بورخيس" يُصرح أنه "نشأ على قراءة التوراة"، ويضيف أن إسرائيل تشكل جزءا عميقا منا جميعا، وأشد عمقا من الانتساب برابطة الدم أو التحدر من عنصر واحد.
وكذلك الكاتب الألماني "غونتر غراس" الحائز على جائزة نوبل، يقف في الهند ليقول "إن ثاني أكبر مشكلة تعانيها البشرية اليوم بعد مشكلة الخطر النووي، هي مشكلة الحفاظ على الأقلية الإسرائيلية الحزينة المهددة بالإبادة في المنطقة العربية".
لذلك فمن الطبيعي أن يحمل الآثاريون الغربيون هذا البعد التوراتي، وترافق ذلك مع عصر الاستعمار ونشوء الكيان الصهيوني وبالتالي "تلازم البعد اللاهوتي والبعد الاستعماري وسارا في سياق واحد وبتوافق تام، الأول كان يستولي بفرق الاستطلاع والمسح والتنقيب على الماضي الفلسطيني ويحل محله ماضيا مختلقا، والثاني كان يستولي بقواته العسكرية ووحشية فاقت الوحشية النازية والفاشية على الحاضر الفلسطيني ويكمل مهمة الأول على أتم وجه"، كما يشرح المؤلف.
نحن إذاً أمام علم استشراق تطبيقي تلازم فيه فرض تاريخ على الأرض مع إبادة سكانها الأصليين، وفق منطق يقول إن الأرض كانت خالية وهاهم أصحابها الأصليون: اليهود يعودون لامتلاكها.
إخراس الهوية العربية
هناك ولع غريب بإخراس الهوية العربية لكل ما يرجع إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد من قبل علماء الآثار، وذلك بهدف قطع العربي المعاصر عن عمقه التاريخي، وتحويله إلى مجرد طارئ على أطراف الحضارات، بينما هو أحد صناعها وناشريها البارزين.
لقد تجاهلوا الوحدة اللغوية لقبائل الجزيرة العربية رغم تعدد لهجاتها، واعتبروا اللهجات لغات، لهذا ابتكر المستشرق النمساوي "شوستلر" مصطلح "اللغات السامية" المستمد من خلفية توراتية هو الآخر ليحل مكان مصطلح "اللغات العربية" كما يقول المؤلف.
وبدل أن يعتمد الآثاريون على اللغة العربية في ترجمة نصوص اللغات القديمة، على اعتبار أنها إما من عائلة واحدة مع اللغة العربية أو مجرد لهجات من اللغة العربية الأم.. بدل ذلك اعتمدوا على النقل إلى اللغة اللاتينية وفق نظام التصويت العبري، مما ألحق أضرارا كبيرة بالنصوص وأدى إلى إساءة الفهم.
يقول الكاتب "هناك أمر لم ينتبه له المترجمون للنصوص الأكادية والكنعانية من اللاتينية إلى العربية، وهو أن الكتابة القديمة باستثناء المقطعية، كانت تكتب بحروف ساكنة، أي من دون حروف العلة.
وحين قام الباحثون الغربيون بنقل هذه الكتابات إلى الحرف اللاتيني أضافوا حرف العلة وفق نظام التصويت العبري على أساس افتراض مسبق مفاده أن العبرية هي أم اللغات، وليست لهجة من لهجات الكنعانية. وهكذا ساهم هذا التصويت في إضافة تغيير خطير أبعد الأكادية والكنعانية وحتى المسندية والمصرية القديمة عن أصولها العربية".
ويضرب الكاتب مثلا بلفظة "حورس" التي تطلق على الصقر في الهيروغليفية القديمة وترد باسم "حر"، لكن المترجمين إلى العربية ترجموا السين الذي هو لاحقة يونانية.
فالكلمة ابتعدت عن أصلها العربي بأربع مراحل حسب الكاتب، تبدأ بكتابة العربية بالمسمارية، حيث كانت تكتب في مرحلة من المراحل التاريخية بها، والمسمارية لا تستوعب أصوات العربية.
والمرحلة الثانية حين تترجم هذه الكتابة إلى اللاتينية التي تفتقر إلى مكافئ للأصوات العربية، وترافق هذه المرحلة مرحلة ثالثة هي مرحلة تصويت الحروف الساكنة وفق قواعد التصويت العبري لا العربي، وأخيرا مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى العربية المعاصرة دون الوعي بما دخل من تبدلات.
تشويه جغرافية الجزيرة العربية
التشويه الأول الذي تعرضت له جزيرة العرب على يد علماء الآثار التوراتيين هو التشويه الجغرافي، ويقوم على تحويل جزيرة العرب إلى شبه جزيرة بحدودها الحالية متجاهلين أن العرب كانوا يقصدون بمصطلح "جزيرة العرب" ما ذكره الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" وهي حدود ترسمها مياه الخليج ونهري دجلة والفرات وصولا إلى جبال طوروس، ثم انحدارا مع شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى نيل مصر، فالبحر الأحمر وصولا إلى المحيط الهندي من الجنوب.
أما التشويه الثاني فهو افتراض أن الجزيرة المختزلة حدودها إلى حدود شبه الجزيرة العربية حاليا كانت معزولة عن الحضارة قبل القرن السابع الميلادي، متجاهلين مركزية دورها في التاريخ العالمي.
فهي كانت موضع أطماع اللخميين والساسانيين والرومان والبيزنطيين، وحاول الإسكندر المقدوني غزوها، وسبب ذلك يرجع إلى أنها كانت ملتقى طرق التجارة الدولية.
فمنها كان يمر طريق العطور الشهير، وبعد انتهاء دور العطور بانتهاء المعابد الآشورية والمصرية التي كانت تستعملها، تحولت الطريق إلى طريق عظيمة للتوابل وخاصة الفلفل الذي كان سلعة ثمينة في أوروبا لدوره في حفظ اللحوم من الفساد.
وقد أدى ذلك إلى نشوء مراكز حضارية كبيرة في الجزيرة العربية مثل دولة الأنباط التي برزت على طريق العطور، وكذلك تدمر التي دمرها الرومان بعد قرنين من تدمير البتراء.
الحرب على جبهة علم الآثار التوراتي
تكاثرت الأدلة الواقعية على بطلان وزيف علم الآثار التوراتي، فكل المنقبين الموضوعيين لم يجدوا أثرا لبني إسرائيل في المنطقة، ولم يجدوا ما يؤيد قصص التوراة – المختلقة - وبسبب ذلك نشأ جيل جديد من الباحثين الغربيين ممن تصدوا للخرافات التوراتية رغم سطوتها في مجالهم، فدفعوا ثمن ذلك غاليا.
في عام 1992 تم اغتيال عالم الآثار الأميركي ألبرت غلوك الذي كان يعمل محاضراً جامعياً.
المغدور الذي من المؤكد أن الصهاينة قتلوه، كان يقود مشروع استكشاف التاريخ الفلسطيني، وتم الاغتيال لمنعه من نشر نتائج تنقيبه الميداني.
وفي نفس السياق يذكر المؤلف أن سلطات الاحتلال أوقفت عالمة الآثار البريطانية كاتلين كينون عن العمل عام 1967 بعدما أعلنت نتائج تنقيباتها التي تدحض التاريخ التوراتي حول مدينة أريحا الفلسطينية.
وكذلك فإن العالم الأميركي توماس تومسن صاحب كتاب "التوراة في التاريخ.. كيف يخلق الكتاب ماضيا" فقدَ عمله وتحول إلى العمل في دهان جدران العمارات ليكسب لقمة عيشه، قبل أن تعيد تشغيله جامعة كوبنهاغن في الدانمارك برتبة أستاذ.
وتأتي في هذا السياق مأساة عالم الآثار الأميركي بوب لاب الذي ترأس بعثة تنقيب في فلسطين عام 1962 قرب نابلس وفتح عمله الطريق لنقد علم الآثار التوراتي، فقد فضح التزييف والتشويه الذي لحق بآثار فلسطين على يد علماء الآثار التوراتيين.
وبعد احتلال القدس عام 1967 احتج لاب على الحفريات التي سارع الجيش الإسرائيلي وفريق علماء آثاره إلى إجرائها، وكان لاحتجاجه أبلغ الأثر في طرد إسرائيل من منظمة اليونيسكو، فتم إغراقه في حادث غامض على شاطئ قبرص عام 1970 عقابا له.
كتب غلوك عام 1990 يقول "لقد عملت أربع قوى على صياغة قصة فلسطين المهيمنة اليوم: الأولى هي الموروث التوراتي كما فسرته الأمم الغربية المسيحية، وهو الذي يشكل قصة فلسطين المعتمدة في العالم الأنجلوساكسوني والأوروبي.
والثانية هي التنافس الأوروبي على بسط السيطرة على ساحل شرق المتوسط عامة، وعلى فلسطين خاصة، ذلك التنافس الذي أنتج معرفة متوافرة بالأرض لخدمة الحاجات العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية، ثم استخدام البيانات المتجمعة لهذه الغاية في توسيع القصة المعتمدة سلفا.
والثالثة هي قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين -سكان البلد الأصليين- بشكل مدروس من أجل توفير وطن لليهود اللاجئين من الاضطهاد الأوروبي، وهو ما نتج عنه رفض المثقفين الفلسطينيين القاطع لقصة فلسطين المعتمدة في الغرب، تلك القصة التي استخدمت كتبرير مدبر لوضعهم كلاجئين.
والرابعة هي اختفاء الميراث الفلسطيني من الأدلة الملموسة، بسبب مصادرة الإسرائيليين المتعمد للمصادر الثقافية العربية أو بسبب تدمير الملكية الثقافية المتمثلة في قرى بأكملها عام 1948 وما بعده .
بعد كل هذا تبدو الحاجة ملحة لإعادة قراءة الوثائق الآشورية والبابلية والكنعانية في ضوء اللغة العربية، وبعقلية بعيدة عن الذهنية التوراتية، وذلك من أجل كتابة التاريخ الصحيح لأمتنا وللبشرية، يأخذ بعين الاعتبار الوحدة الحضارية واللغوية للأمة العربية منذ آلاف السنين، وأيضا انغماس العرب في صناعة التاريخ والحضارة البشريين منذ أقدم العصور، وأنهم ليسوا طارئين في التاريخ و الجغرافيا.
__________
الجزيرة نت بـ"تصرف"