{لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم}
هذا البيت الشارد للشاعر الإسلامي، المتوكّل الليثي، من قصيدة مدح بها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وابنه يزيد بن معاوية، ومطلعها:للغانيات بذي المجاز رسوم فببطن مكة عهدهن قديم
وليس في هذا البيت لفظ غريب، وذاك من العوامل المساعدة على سريانه حكمة، وعلى تناقله من جيل إلى جيل، فقوّته في المعنى الذي يعبّر عنه، والذي يحدّد صفة من المفروض أن تكون صفة إنسانية مشتركة، وعلى أي حال فلا غنى للمسلم عنها إذا أراد صادقا أن يكون من خير أمّة أخرجت للناس، فمن شروط ذلك الانتساب النهي عن المنكر، وفي مقدّمة المنكرات سيِّئ الأخلاق وذميمها.
وكم يتصدّى خطيب مفوّه أو كاتب ضليع أو حتى داعية مشهور لأداء تلك المهمّة، فينهى عن منكرات معروفة، ثمّ لا يتجنّب ارتكابها، من حيث يعي ذلك وعواقبه أو لا يعي، وآنذاك لا تتجاوز بلاغته الآذان والعيون، ولا تصل إلى القلوب والأفئدة، فمن يسمع قوله يسمع بسيرته، ومن يبصر ما يخطّ قلمه يبصر سلوكه، وللفعل تأثير أبلغ من تأثير القول قطعا!..
الأمثلة عديدة، يكفي التنويه ببعضها ممّا تحجم عن ذكره الأقلام أحيانا، وكأنّه ليس من المنكرات التي يجب النهي عنها أيضا..
من ذلك أن يستنكر بعض الدعاة في حركة من الحركات الإسلامية تقديس الأشخاص ويدعون إلى العزوف عنه، وذاك حقّ فجميعنا يشهد وقد يتألّم لما يصنعه أسلوب تقديس الأشخاص في التعامل مع ملوك ورؤساء معاصرين من صغار وهوان ومن تذويب الشخصية القادرة على البناء والعطاء، ولكنّ الشاهد هو أنّ بعض أولئك الدعاة أنفسهم قد لا يخرجون بأنفسهم هم عن وضع شيوخ الحركة وزعمائها وقادتها في موضع التقديس، وقد يخالفونهم في ذلك ويخالفون فهمهم هم للإسلام، وشبيه ذلك إنكار الدعاة للاستبداد في بلدهم أو في أي بلد إسلامي آخر، ثم السكوت على تعطيل النظام الشوري فيما بينهم داخل حركتهم!..
ومثال آخر، ما الذي يصنعه الإبداع في رواية قصصية، أو قطعة فنية، أو فيلم من الأفلام، إذا استهدف التبصير بأخطار آفة اجتماعية، إذا اطّلع القارئ والمشاهد في الوقت نفسه على غرق الكاتب أو الرسام أو الممثل في تلك الآفة الاجتماعية وما هو أشدّ منها؟.. ولكم شهدنا ذلك التناقض الصارخ فيما يطلقون عليه وصف المثقفين المتنوّرين أو الفنانين المبدعين أو النجوم والكواكب وما شابه ذلك من ألفاظ، وكم شهدنا أنّ من جيل الشباب من اتخذهم رموزا ورآهم يمثلون ولكن صنع صنيعهم في حياتهم الحقيقية، فلم ينشروا إلا الفساد والانحراف والضعف والخور!..
لا تنه عن خلق وتأتي مثله!.. لا يقتصر ذلك على من نراهم في موضع القدوة أو نودّ أن يكونوا في موضع القدوة من المشاهير، بل تسري القاعدة نفسها على العامة، في مختلف شؤونهم وميادين مسؤولياتهم، فكل فرد مسؤول عن رعية، كبيرة أو صغيرة، وعن أمر من أمور مجتمعه ولبنة من لبناته، ولن يقدر أب اعتاد الكذب أن يدفع ابنه إلى هجر الكذب بمجرد نصيحته أو أمره بذلك، ولا الأمّ التي تستمرئ اللهو واللغو أن توفّر التربية القويمة لأولادها بمجرد الكلام، وكذا الأستاذ مع طلبته، والصديق مع أصدقائه، والمدير مع موظفي دائرته، ورئيس الورشة مع عمال ورشته!..
إن مخالفة سلوكِ منكِرٍ مَشهودٍ للنصيحةِ بترك المنكر، تؤدّي إلى إضافة منكر أشدّ وأخطر، أن نعتاد الازدواجية ونستهين بانتشارها، بدلا من إزالة المنكرات التي نزعم النهي عنها!..
لا تنه عن خلق وتأتي مثله، فذاك ممّا يلحق بك عارا عظيما بين الناس في الحياة الدنيا، فما بالك بما ستلقاه من جزاء في الآخرة! ، ومنهج الأنبياء واضح "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"