بعد أحداث غزوة أحد وما حصل فيها، من ابتلاء وهزيمة للمسلمين، انتشر بين الأعداء الشعور بالفخر، وحصلت لديهم الرغبة في الكيد بالمسلمين والقضاء عليهم، بل اتجهت أنظار المشركين من الأعراب إلى محاولة غزو المدينة، مناصرة لقريش، ودفاعا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعا في خيرات المدينة. ومن ذلك قيام خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي بجمع الحشود من هذيل وغيرها بعُرَنة (وادي بعرفات)، لغزو المسلمين في المدينة، فأرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه، وكلفه بمهمة قتله .
قال عبد الله بن أنيس : ( دعاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إنه قد بلغني أن ابن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعرنة فأته فاقتله، قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه، قال: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة . قال: فخرجت متوشحاً سيفي حتى دفعت إليه وهو في ظُعُن(نساء) يرتاد(يطلب) لهن منزلا، وحيث كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن تكون بيني وبينه مجاولة(مطاردة) تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك، قال: أجل إني لفي ذلك . قال: فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه(نساءه) منكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرآني قال: أفلح الوجه، قلت: قد قتلته يا رسول الله، قال: صدقت . ثم قام بي فأدخلني بيته فأعطاني عصاً فقال: أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس ، قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟، قلت: أعطانيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرني أن أمسكها عندي، قالوا: أفلا ترجع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتسأله لم ذلك؟، قال: فرجعت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟، قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ. قال: فقرنها عبد الله بن أنيس بسيفه، فلم تزل معه حتى مات، ثم أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا جميعا ) ( أحمد ) .
المتخصرون: هم الذين يصلون بالليل، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصِرهم، وقيل: من لهم أعمال صالحة يتكئون عليها يوم القيامة كما يتكئ الإنسان على عصاه .
قال ابن هشام : وقال عبد الله بن أنيس في قتله لخالد الهذلي أبيات من الشعر، منها :
وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبي محمد
وكنت إذا هم النبي بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد
والناظر في هذا الحدث يلحظ فيه حكما باهرة، وفوائد جمة، ينبغي الوقوف عندها للاستفادة منها في حياتنا وواقعنا، منها :
اهتمام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجانب الأمني للدولة الإسلامية، ومتابعته تحركات الأعداء ومؤامراتهم، ووضع الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ومن ثم لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة بحزم وهي في أيامها الأولى، وبذلك حقق للمسلمين مكاسب كبيرة، إذ قلل التضحيات المتوقعة من مجيء خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة، وأخاف كل من تسول له نفسه من محاولة التعرض بالأذى للمسلمين والدولة الإسلامية، وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار .
كذلك أظهر هذا الحدث فراسة وحكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اختيار الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة كخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم وحسن الخلق والمهارة في اجتذاب الناس كمصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة كعبد الله بن حذافة ـ رضي الله عنه ـ، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر .
ولقد كان عبد الله بن أنيس الجهني قوي القلب ثابت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان، ذا قدم راسخة في الفقه في دين الله، فهو من الرعيل الأول من الأنصار الذين شهدوا بيعة العقبة، ومن ثم لم ينس وهو في هذه المهمة الصعبة صلاة العصر، فصلاها في وقتها إيماء برأسه، حرصا ومحافظة على صلاته، وحفاظا على سرية مهمته التي جاء من أجلها .. وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة فهناك سبب آخر حيث كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه جهينة .
ومن خلال قتل عبد الله بن أنيس ـ رضي الله عنه ـ لخالد الهذلي يظهر لنا دليل من دلائل نبوة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالد بن سفيان الهذلي لعبد الله بن أنيس وصفاً دقيقاً دون أن يراه، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة )( أحمد ).
وقد وجد عبد الله بن أنيس ـ رضي الله عنه ـ خالد الهذلي على الصفة التي ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال عبد الله : ( .. فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله ) ( البيهقي ) ..
وقد كافأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن أنيس على نجاحه في مهمته الكبيرة مكافأة عظيمة، لكن هذه المكافأة لم تكن مادية دنيوية كما يتمنى الكثير ممن يقوم بالمهمات الشاقة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل كانت أسمى من ذلك وأعظم، فهي وسام شرف أخروي قل من يناله، وهذا يدل على علو مكانته في الآخرة، والتي نالها بحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطاعته، والتضحية في سبيل الله ـ عز وجل ـ .. فقد أعطاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشارة الخلود في جنة عرضها السموات والأرض، أعطاه عصا، وجعلها علامة بينه وبين رسول الله يوم القيامة، يتكئ عليها وتأخذ بيده، كما تأخذ صلاة الليل بيد صاحبها يوم القيامة إلى النجاة ، ومن ثم لم يترك عبد الله هذه العصا أبدا، وأوصى أن تدفن معه في قبره ..
لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا ينتظرون جزاء دنيويا، ولو حصلوا على شيء من متاع الدنيا فإنه لا يعتبر عندهم شيئا له قيمة، وإنما ينتظرون جزاءهم في الآخرة .
وهكذا استطاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحكمته ودقة تفكيره، وحسن تدبيره في حدث واحد، أن يبث الرعب في قلوب الأعداء، ويفوت عليهم الفرصة، ويأخذ بزمام المبادرة، وأن يلفت أنظارهم إلى قوة المسلمين، ويحفظ للدولة الإسلامية هيبتها ..