كان المنظر في وزارة الخارجية الإسرائيلية كما يأتي: السفير التركي (أحمد أوغوز تشليكول) يصل إلى مبنى الوزارة بناء على استدعاء من (داني أيالون) نائب وزير الخارجية. يقوده مستقبلون إلى باب إحدى الغرف. يقف هناك منتظراً. وبعد انتظار أطول من المعتاد يُفتح الباب. يدخل السفير ليجد ثلاثة مسؤولين إسرائيليين يجلسون متجهمين في جانب، يطلبون منه الجلوس قبالتهم على مقعد منفرد. يتوجه داني أيالون نحو الصحافيين موضحاً لهم بالعبرية جو الموقف بقوله: المهم أن تلاحظوا أنه يجلس منخفضاً ونحن نجلس عالياً، ويوجد هنا علم واحد (إسرائيلي)، وأنتم ترون أننا لا نبتسم. ثم تحدث عن السبب الذي استدعى تأليف هذا المشهد وإخراجه فقال: إن التلفزيون التركي يعرض مسلسلاً يحمل اسم «وادي الذئاب»، وهذا المسلسل غير مقبول، ويعرض اليهود في تركيا للخطر، ويمس بالعلاقات الثنائية.
في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، كان هناك مشهد آخر من نوع مختلف. كان رئيس وزراء روسيا يستقبل (رجب طيب أردوغان) رئيس وزراء تركيا، وكانت مواضيع البحث تتركز حول أنابيب غاز تمتد من روسيا إلى تركيا لتصل إلى عواصم عالمية، وتتركز أيضاً حول محطة نووية تنوي تركيا بناءها بمساعدة روسية.
تبرز المقارنة بين المشهدين نوعين متنافرين من الاهتمامات. وزارة الخارجية الإسرائيلية مهتمة بإهانة سفير دولة معتمد لديها، ودبلوماسيوها الكبار يعتبرون أنفسهم متفوقين حين يجلسون على كرسي أعلى من الكرسي الذي يجلس فوقه السفير، ويذكر ذلك بألاعيب الأطفال حين يتخاصمون. أما في وزارة الخارجية الروسية، فقد كان الرجلان، الروسي والتركي، يجلسان متقابلين، ويتحدثان نداً لند، وفي جو ودي ملحوظ.
هذه المقارنة بين اللقاءين، وبين ما دار فيهما من نقاش، الأول حول مسلسل تلفزيوني، والثاني حول إمدادات الغاز والقدرة النووية، تبرز أن الخلاف بين "إسرائيل" وتركيا هو أبعد ما يكون عما أعلنته "إسرائيل"، ف"إسرائيل" كانت لسنوات طويلة محور الاستقطاب السياسي في المنطقة، فهي التي تنطق بلسان سياسات الولايات المتحدة الأميركية، تهديداً أو ضغطاً أو حرباً، ضد هذه الدولة العربية أو تلك، بينما انتدبت تركيا نفسها في السنتين الأخيرتين، لدور سياسي إقليمي كبير، بدءاً من الوساطة بين سوريا و"إسرائيل"، ومروراً بإعلان موقف صريح ضد جريمة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وانتهاء بدور عالمي تعبر عنه المفاوضات بينها وبين روسيا. ويبرز في ختام المشهدين تراجع دور "إسرائيل"، وتقدم دور تركيا، وفي السياق نفسه، تتراجع صداقة تركيا مع "إسرائيل"، وتتقدم صداقة تركيا مع العرب. وبسبب هذا التناظر الذي اختلت موازينه عما كانت عليه، نشبت أزمة العلاقات بين "إسرائيل" وتركيا، وهي الأزمة التي عبرت عنها "إسرائيل" من خلال احتجاج بأسلوب مضحك ومهين في الوقت نفسه. أما الادعاء بأن مسلسل «وادي الذئاب» كان هو السبب في هذا كله، فهو ادعاء لا يفعل إلا أن يزيد في إثارة ضحك المشاهدين.
وإذا لاحظنا تركيز الصحف الإسرائيلية على القول: إن الهدف من مشهد استدعاء السفير وإهانته، هو احتجاج الخارجية على الوساطة التركية بين "إسرائيل" وسوريا، وهو احتجاج عبر عنه أيالون بقوله: «إن اختيار تركيا كوسيط في المفاوضات غير المباشرة مع سوريا، كان خطأ»، فإننا نسجل بعداً آخر للحدث المضحك، ف"إسرائيل" لا تريد أية مفاوضات ناجحة مع العرب، و"إسرائيل" لا تريد وسيطاً آخر غير الولايات المتحدة يكون شاهداً على تعنت "إسرائيل" ورفضها لأية عملية سلام ناجحة.
نذكر هذا وفي الذهن، موقف سياسي تركي واضح الصراحة والدقة والعمق، عبر عنه رجب طيب أردوغان في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع سعد الحريري عند انتهاء زيارته لتركيا. رسم أردوغان في ذلك المؤتمر الصحافي رؤية سياسية تركية شديدة الوضوح في نقد النهج السياسي الإسرائيلي. قال:
1 – إن "إسرائيل" ترفض تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي، وهي رفضت حتى الآن تنفيذ أكثر من مائة قرار.
2 – إن هذا الوضع يقتضي إصلاح بنية الأمم المتحدة، من أجل إيجاد صيغة تقود إلى تنفيذ دائم لقراراتها.
3 – إن غياب قوة الردع للدول التي تتجاهل قرارات الأمم المتحدة، يشجع "إسرائيل" على التمادي في تجاوزاتها، وهذا ما يحدث بشكل واضح في غزة ولبنان. يضاف إلى ذلك أن "إسرائيل" مدعومة بالسلاح النووي الذي لا يسأل عنه أحد.
4 – إن "إسرائيل" بهذا الوضع تهدد السلام الإقليمي والعالمي.
إن هذا الموقف التركي الذي أصبح مؤخراً ثابتاً وواضحاً في جميع مواقف تركيا المعلنة، يشكل السبب العميق للانزعاج الإسرائيلي الكبير من تركيا، رغم ما كان بينهما من صداقات وعلاقات متينة استمرت سنوات طويلة. وهذا يعني أن حادثة السفير التركي وتعمد إهانته، ليست إلا العنوان الذي يطفو على السطح، وستكون لهذه الخطيئة الإسرائيلية المعنوية، تداعيات تبرز أكثر فأكثر في الأشهر المقبلة.
وإذا كان البعض يميل لربط الأمر بيمينية وزير الخارجية الإسرائيلي (أفيغدور ليبرمان) وعنصريته، فإن استذكار عناصر تحريك السياسة الإسرائيلية، من شأنه أن يلغي هذه النظرية السطحية، فحكومة "إسرائيل" إذ تعادي تركيا بهذه الطريقة الفجة، فإنها تعادي في الوقت نفسه سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتعادي بشكل خاص دعوته لوقف الاستيطان الصهيوني نهائياً. وحين اضطر أوباما لأن يتراجع عن مطلبه هذا، فهو لم يفعل ذلك بسبب براعة نتنياهو وصلابته كما يقال، بل بسبب قوى أميركية داخلية، تعمل ضد أوباما، وتشجع "إسرائيل" على معارضته.
وهنا يمكن القول: إن هذه القوى الأميركية، هي بؤر المحافظين الأميركيين الجدد، الذين حكموا أميركا برئاسة جورج بوش، ولا يزالون يحتلون مراكز قوى بارزة في مؤسسات أميركية عديدة، من بينها المؤسسة العسكرية ذات التأثير في القرار السياسي. وهؤلاء المحافظون الجدد هم الذين يشجعون حكومة نتنياهو، ووزير خارجية نتنياهو، على اتخاذ مثل هذه المواقف الفجة ضد تركيا.
ومواقف المحافظين الأميركيين الجدد، في تحريض "إسرائيل" على العصيان، لها سابقة شهيرة، تمت عام 1996، أي عندما وصل نتنياهو إلى السلطة في ذلك العام (بعد مقتل إسحق رابين)، وقبل أن يصل المحافظون الجدد إلى السلطة. في ذلك العام وصل إلى "إسرائيل" (ريتشارد بيرل) أحد منظري المحافظين الجدد، حاملاً رسالة من جماعته، تطلب من نتنياهو أن يوقف سياسة التفاوض مع الفلسطينيين، وأن يوقف بشكل خاص سياسة التنازل للفلسطينيين حسب وصفهم. لماذا؟ لأن "إسرائيل" يجب أن تبقى قوية في وجه العرب، من أجل المساعدة في تنفيذ سياسة المحافظين الجدد في منطقة الشرق الأوسط (سياسة إنشاء الشرق الأوسط الجديد). وقد التزم نتنياهو في ذلك الحين بما طلب منه أميركياً، وعطل المفاوضات مع الفلسطينيين ثلاث سنوات كاملة.
الآن.. لا شيء يمنع من تصور تكرار المشهد القديم نفسه، فبقايا المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري، وفي المؤسسات، يطلبون من نتنياهو ومن وزير خارجيته، تخريب كل سياسة مع الفلسطينيين ومع العرب، ويطلبون منه أيضاً أن يخرب كل سياسة يسعى إليها الأتراك، الذين دخلوا المشهد السياسي وأصبحوا جزءاً فاعلاً فيه.
إن حادثة السفير ليست حادثة تلفزيونية، بل هي تمت بصلة لصراع سياسي يدور داخل الولايات المتحدة، ودور "إسرائيل" فيه أن تعارض أوباما، وأن تزعج تركيا، تمهيداً لسياسة عدوانية جديدة قد تطل برأسها بعد زمن.
ـــــــــــــــــــــ
صحيفة الشرق الأوسط