قرأت منذ أيام في إحدى الجرائد العربية الإسلامية خبرا مفاده أن باحثا من أهل الكتاب كتب يطالب بحذف غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من السيرة لأن في هذا وصما له بأنه كان سفاكا للدماء مبغضا للسلم وهذا بخلاف الحقيقة.... فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس وحياته كلها فيها رحمة، فنشر هذه الغزوات انتقاص من قدره وإساءة له.
طبل أناس لهذا الكلام وزمروا، وهللوا وكبروا، فأخيرا اعترف هؤلاء برحمة نبي الإسلام.
وقام آخرون وشكروا صاحب الكلام عل إنصافه، ووصفوه بالحيادية وعدم الانغلاق خصوصا وهو حاصل على دكتوراه دار موضوعها حول الشريعة الإسلامية.
لقد غزا الغرب المسلمين عسكريا منذ أزمنة طويلة ولكنهم وجدوا خلال هذه التجربة الطويلة أن المسلمين مهما طالت مدة احتلالهم فهم يقاومون ويحاربون وكثيرا ما ينتصرون، فروح الإسلام ما زالت فيهم وحب القتال يملأ جنباتهم فاعترفوا بفشل الغزو العسكري وأجّلوه ولو إلي حين والتفتوا إلى غزو آخر وهو الغزو الفكري والثقافي لتغيير مفاهيم المسلمين عن الإسلام ليسهل بعد ذلك ترويضهم واحتلالهم.
الحديث عن الجهاد :
ولقد كان الحديث عن الجهاد، ولا يزال هو أهم تُكأة يعتمد عليها محترفوا الغزو الفكري في خلط الحق بالباطل وفي محاولة فتح الثغرات في جوانب صرح هذا الدين القويم بغية التشكيك فيه والنيل منه.
ولن تعجب من دوافعهم في التركيز الشديد على مشروعية الجهاد بخصوصه، إذا علمت بأن الجهاد هو أخطر ركن من أركان الإسلام يخيف أعداء الله ويرعبهم، فهم يدركون أن هذا الركن إذا استيقظ في قلوب المسلمين وأصبح ذا أثر في حياتهم في أي عصر أو زمن فلن تستطيع أي قوة مهما بلغت أن تقف في وجه الدفع الإسلامي.
لذا ينبغي أن يكون البدء في هدم أو تشويه معنى الجهاد في قلوب المسلمين إذا أردنا أن نوقف مد الإسلام وأن ندوس على رقاب أهله. ولعل مطلبهم هذا مما حفزهم للعمل على إسقاط الخلافة وإزاحة الخليفة لأنه بكلمة واحدة منه بالدعوة إلى الجهاد يجتمع له مئات الآلاف بل ربما عشرات الملايين.. وقد نجحوا في إسقاط الخلافة.. ثم عملوا على إسقاط الجهاد من قلوب المسلمين.
نظريتان متضادتان متوافقتان:
ولقد سلكوا في سبيل الوصول إلى هدفهم مسلكا غريبا: إذ أشاعوا بين المسلمين نظريتين متناقضتين تماما في الظاهر ولكنهما متفقتان ومنسجمتان تماما في الحقيقة والباطن.. إذ يتكون من كليهما وسيلة واحدة ومقصود واحد وهو إلغاء مشروعية الجهاد من أساسه أو على الأقل تشويه صورته عند كثير من المسلمين.
النظرية الأولى: هي التي تنادى بأن الإسلام إنما انتشر بحد السيف فهو دين ظلم ودماء، وقتل واعتداء، وبطش وحب للتوسع والسيطرة، وحقد على الآخرين، ليس فيه للرحمة مكان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سلكوا مسلك الإكراه في إدخال الناس هذا الدين عنوة وقهرا، فكان الفتح الإسلامي على أيديهم فتح قهر وبطش لا فتح قناعة وفكر.(كما ذكر ذلك فان فلوتن في كتابه السيادة العربية ونقله عنه البوطي في فقه السيرة).
فروجوا لهذا الشائعة ونشروها وتبنوها حتى آتت أكلها وظهرت ثمارها كردود فعل للمسلمين ومحاولات لإنكار هذا الظلم الذي لحق بالإسلام.
النظرية الثانية: وبينما المسلمون يلتمسون الرد على هذا الباطل الشنيع والظلم المريع، قام من أولئك المشككين أنفسهم من اصطنع الدفاع عن الإسلام بعد طول بحث وتجرد، وراح يرد هذه التهمة قائلا:
إن الإسلام ليس كما قالوا دين سيف ورمح وبطش، بل هو على العكس من ذلك: دين محبة وسـلام، لا يُشرع فيه الجهاد إلا لضرورة رد العدوان المداهم، ولا يُرغب أهله في الحرب ما وجدوا إلى السـلام من سبيل" .
فصفق بسطاء المسلمين طويلا لهذا الدفاع (المجيد) في غمرة تأثرهم من الظلم الشنيع الأول، وصادف ذلك في نفوسهم المتحفزة للرد عليه قبولا حسنا، فأخذوا يؤيدون ويؤكدون ويستخرجون البرهان تلو الآخر على أن الإسلام فعلاً كما قالوا دين مسالمة وموادعة لا شأن له
بالآخرين إلا إذا داهموه في عقر داره، وأيقظوه من هدأته وسباته.
وفات أولئك البسطاء أن هذه هي النتيجة المطلوبة، وهذا بعينه هو الغرض الذي التقـى عليه في السر كل من روجّ الشائعة الأولى ثم أشاع الباطل الثاني. فالمقصود هو السلوك بمقدمات ووسائل مدروسة مختلفة، تنتهي إلى نسخ فكرة الجهاد من أذهان المسلمين، وإماتة روح الطموح في نفوسهم.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي: "يخاف الغربيون لا سيما الإنكليز من ظهور فكرة الجهاد في أوساط المسلمين حتى لا تتوحد كلمتهم فيقفوا أمام أعدائهم، ولذلك يحاولون الترويج لفكرة نسخ الجهاد، وصدق الله العظيم إذ يقول فيمن لا إيمان لهم: (فإذا أُنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت)، ولقد قابلت المستشرق الإنكليزي (أندرسن) في مساء الجمعة 3حزيران 1960م، فسألته عن رأيه في هذا الموضوع، فكان من نصيحته لي أن قول: إن الجهاد اليوم ليس بفرض بناء على مثل قاعدة (تتغير الأحكام بتغير الأزمان). إذ أن الجهاد في رأيه لا يتفق مع الأوضاع الدولية الحديثة لارتباط المسلمين بالمنظمات العالمية والمعاهدات الدولية، ولأن الجهاد هو الوسيلة لحمل الناس على الإسلام، وأوضاع الحرية ورقي العقول لا تقبل فكرة تفرض بالقوة".
ولقد نجح أعداء الإسلام من الغرب أو ممن يخافون الوجود الإسلامي في تشويه صورة الجهاد الإسلامي ونجحوا إلى حد كبير في نشر هذه الثقافة الجديدة في قلوب كثير من المسلمين حتى أصبح الكثيرون يخافون من نطق لفظ الجهاد ولو بصورة عابرة غيبت هذا الركن عن أسماع الناس فضلا عن أن يكون ثقافة إسلامية ومطلبا شرعيا يعمل الناس على إحيائه والقيام به حق القيام.
مسلمون ظلموا الجهاد:
كلمة الجهاد في الإسلام يمكن أن يدخل فيها جهاد النفس، وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين بالحجة والبيان، كما يدخل فيها جهاد أعداء الله بالسيف والسنان.. لكنها إذا أطلقت فإنما يقصد بها المعنى الأخير وهو جهاد أعداء الله في سبيل الله بالسيف في ساحات الوغى. ولقد ساعد بعض المنتسبين إلى الإسلام في تشويه صورة الجهاد ومعناه حينما استعملوا هذا المصطلح الشرعي في غير معناه وحولوه عن مقصوده:
فبعض المسلمين جعلوا الجهاد هو جهاد النفس وفقط، وجهاد الهوى والشيطان، وجعلوه هو الجهاد الحق، وتركوا الجهاد الشرعي الذي هو قتال أعداء الله، وعندما دخل التتار بلاد المسلمين ذهب بعضهم وجلسوا في المساجد يقرؤون القرآن وكتب الحديث وزعموا أن ذلك هو واجب الوقت فخذلوا الدين وأهل الإسلام لسوء فهمهم!!!
وقوم آخرون جعلوا الجهاد هو الخروج للدعوة في سبيل الله، وأخذوا آيات الجهاد الشرعي الذي هو القتال وأنزلوها على الخروج للدعوة، وأخذوا أحاديث الرباط في الثغور ونزلوها على الجلوس في المساجد وإلقاء المواعظ.
وآخرون أنزلوا آيات الجهاد على الخروج على الحكام وجعلوا الخروج على الحاكم هو الجهاد، وقام البعض ببعض التفجيرات قتلوا فيها مسلمين وأرهبوا الآمنين وسفكوا دماء لا يحل لهم سفكها بحال.. وأخذت الصحافة هذه الأمور فضخمتها واستعملتها في تشويه صورة الدين عامة والجهاد خاصة مما كان له أكبر الأثر في فهم الناس واعتقادهم حول مفهوم الجهاد الإسلامي الصحيح.
وهكذا كل من وضع الجهاد في غير موضعه الذي وضعه له الشرع أفسد أكثر مما يصلح ، وساهم ولو من حيث لا يدري في تشويه صورة الجهاد.
ولكن رغم حقد الكافرين وغفلة المؤمنين وانتحال المبطلين يبقى علم الجهاد الحق مرفوعا إلى يوم الدين كما قال أئمتنا ومنهم الإمام الطحاوي في عقيدته: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما".
وقبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حدبث عمران بن حصين عند أبي داود بسند صحيح: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" رواه أبو داود وإسناده صحيح.