إن مما يحزِن قلبَ كل مسلم صادق ويشغل ذهنه وتفكيره في هذه الأوقات؛ ما يلاقيه أهلنا وإخواننا المسلمون في فلسطين وبالتحديد في غزة الصابرة المحاصرة، على أيدي اليهود الكفرة، ومن ورائهم أمريكا الطاغية الباغية وأيدي المنافقين الخونة من بني الجلدة والنسب.
ولقد كتب الكثير من الدعاة وطلبة العلم والمجاهدين في نصرة إخواننا هناك والتضامن معهم، والدعاء لهم، والوقوف معهم في محنتهم كلٌّ بحسبه وقدرته، فجزى الله الجميع خيراً، وليس هذا مستغرباً على أهل التوحيد والإسلام الذين وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ولذا؛ فإني في هذه المقالة لا أجد مزيداً على ما كُتِب في مجال نصرة إخواننا هناك، ولكن أرى أن هناك أموراً مهمة يجب أن تطرح وتُلفت أنظار المسلمين إليها، وبخاصة الدعاة منهم وطلبة العلم والمجاهدين فيهم. ومع أهمية هذه الأمور، غير أنه قلّ من يتطرق إليها؛ إما عن غفلة عنها، أو بحجة أن الوقت وقت مناصرة وتضامن وليس وقت محاسبة وتنظير!
ومن أهم الأمور التي ينبغي أن ننتبه إليها في خضم هذه الأحداث وأمثالها، ما يلي:
الأمر الأول:
اليقين الجازم والاعتقاد الراسخ بأن ما يجري اليوم من كيد وقتل وهجوم شرس من الكفار على بلدان المسلمين؛ فإنما هو بعلم الله - تعالى - وإرادته. قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:٢١١]، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: ٣٥٢].
ومشيئته - سبحانه - ليست مجردة عن حكمته، بل له - سبحانه - الحِكَم البالغة في خَلْقه وأمره، والعارفون لربهم - عز وجل - يعلمون ذلك، ولذا فهم يحسنون الظن بربهم، ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقــدرها الله - عز وجل - هي خير ومصحلة ولطف بالموحدين، إن شاء الله تعالى. ومع أن المعركة اليوم مع الكفار لا تزال في بدايتها، ومع أنها موجعة وكريهة؛ إلا أننا نلمس لطف الله - عز وجل - وحكمته ورحمته في أعطافها.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها، وتستلزمها استلزام المقتضي الموجب لموجبه ومقتضاه، فلا بد من ظهور آثارها في الوجود؛ فإن من أسمائه: الخلَّاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك التواب والحكيم والعفوُّ، وكذك الرحمن الرحيم، وكذلك الحَكَم العدْل، إلى سائر الأسماء. ومنها: الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجودِ، والوجودُ متضمن لخلقه وأمره؛ {أَلا لَهُ الْـخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، فمصدر الخلق والأمر عن هذين الاسمـين المتضمنين لهاتين الصفتين، ولهذا يقرن - سبحانه - بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر).
الأمر الثاني:
إن من حِكَم الله - عز وجل - البالغة في هذه الأحداث أن يعرِّفنا على سننه - سبحانه - التي لا تتبدل ولا تتحول، وبمعرفة هذه السنن الإلهية يتضح الطريق المستقيم ويهتدي المسلم فيه، ويوفق إلى الموقف الحق والمنهج الصائب.
يقول الله - عز وجل - آمراً لنا بالنظر في سننه المطَّردة: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: ٧٣١] وقال - سبحانه -: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: ٣٤].
لذا وجب على المسلمين بعامة وعلى دعاة الحق المجاهدين في سبيل الله - عز وجل - خاصة؛ أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله - عز وجل - وما تضمن من الهدى والنــور؛ ومن ذلــك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة مــن دعـــوة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاةً مما وقع فيه الآخرون من تخبط وعناء، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق.
وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية - فهذا له مقام آخر - وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله، عز وجل؛ وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها اليوم في الأرض المباركة فلسطين.
ومن هذه السنن التي ينبهنا الله - عز وجل - إليها في مثل هذه الأحداث ما يلي:
1 - سُنة المدافعة:
إن إيماننا بأن كل ما يحدث في هذا الكون من أحداث إنما هو بعلم الله - عز وجل - وإرادته وحكمته؛ لا يعني الاستسلام للذل وترك المدافعة؛ لأن الله - عز وجل - الذي أراد هذه الأحداث كوناً وقدراً؛ أراد منا مدافعتها ديناً وشرعاً، وهذه هي سُنَّة المدافعة. قال الله - عز وجل -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: ٤]. ويقول الله - عز وجل -: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: ٠٤]. وقال الله - عز وجل - في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم: «... وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقَتَهم عربَهم وعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك»[رواه مسلم].
ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على حتمية الصراع بين الحق والباطل في صورة المدافعة بين المسلمـين والكفـار. ومن طمع في الإصلاح ودرء الفساد ونشر الخير بدون هذه السنَّة؛ فإنما هو جاهل بسنن الله - تعالى - ومتنكِّب لطريق الأنبياء وأتباعهم.
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة، والصبر والثبات على ابــتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله - عز وجل - على رأس هذه المدافعات وذروتها لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغـــاية ما يمكن)[الاختيارات الفقهية].
وما يحصل الآن في غزة المحاصرة عدوان صارخ يجب على المسلمين مدافعته بكل ممكن، وكلٌّ بحسبه، ولا يُعذَر أحد حتى يزول العدوان ويندفع الفساد:
* فالقادرون على حمل السلاح عليهم واجب المدافعة بالجهاد والسنان حتى يندحر العدو الصائل.
* وعلى رموز الجهاد وقادته في الأرض المباركة أن يتقوا الله - عز وجل - ويستعينوا به وحده، وألا يرضوا بغير الجهاد بديلاً وخياراً؛ لأن العدو لا يوقفه إلا الجهاد.. والجهاد فحسب. والتجارب تشهد بضياع الأوقات والجهود معه في مناورات سياسية ورهانات خاسرة. كما يجب عليهم أن يتقوا الله - عز وجل - في مَن تحت قيادتهم، فلا يدفعونهم في طريق إلا بعد أن يتأكدوا من موافقته للشرع وأنه الأرضى لله - عز وجل - وأن يربوا فيهم الإخلاص والولاء لهذا الدين وليس لطائفة أو حزب أو تراب، كما عليهم أن يتقوا الله - عز وجل - في جمع الكلمة ووحدة الصف مع إخوانهم المجاهدين الموحدين، وينزعوا أيديهــم من الأحزاب الجاهلية المحادّة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولو أظهرت المقاومة والوطنية.
* وعلى علماء الأمة واجب المدافعة بإعلان النصرة لإخواننا هناك، وتوجيههم والتضامن معهم، وحث الأمة على دعمهم والوقوف معهم، ومخاطبة الأعداء من اليهود والأمريكان ببيانات قوية شديدة اللهجة؛ يأمرونهم بالكف عن الظلم والعدوان، وتهديدهم إن لم يكفوا بتوجيه الأمة إلى الانتقام ورد العدوان وإلحاق الأذى بمصالحه.
* وعلى الأغنياء في هذه الأمة واجب المدافعة بدعمهم بالمال الذي يخفف من معاناتهم ويعينهم على جهاد أعدائهم.
* وعلى أصحاب الأقلام والمنابر الإعلامية النَّفْرة لنصرة إخواننا هناك؛ بالتعريف بقضيتهم، وفضح أعدائهم من الكفرة والمنافقين، وإظهار صور الظلم والعدوان التي يواجهونها، ومخاطبة الأمة بالوقوف معهم ونصرتهم.
* وعلى المسلمين عامة واجب المدافعة؛ بالاهتمام بشؤونهم، والحزن لمصابهم، والدعاء لهم، ودعمهم قدر الإمكان.
2 - سنة الابتلاء والتمحيص:
يقول الله - عز وجل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: ١٣]، وقال الله - عز وجل - معقباً على غزوة أحد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: ٩٧١] ، وقال - سبحانه - في الحدث نفسه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْـمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا...} [آل عمران: ٦٦١ - ٧٦١].
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند الآية الثانية: (أي: لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليُّه، ويفتضح فيه عدوُّه، يُعرَف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر).
ويقول صاحب الظِّلال: (ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته؛ أن يدع الصفَّ المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان وروح الإسلام، وكل هذا يقتضي أن يُصْهَر الصف ليخرج منه الخَبَث، وأن يُضغَط لتتهاوى اللبِنات الضعيفة، وأن تُسَلَّط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة).
وبالنظر لهذه الأحداث الجارية في فلسطين في ضوء سنن الابتلاء والتمحيص؛ نرى أن هذه السنة المطردة الثابتة تعمل الآن عملها بإذن ربها - سبحانه وتعالى - لتؤتي أُكُلَها الذي أراده الله عز وجل، ومنه اللطف والرحمة من الله - عز وجل - والمتمثل في تمحيص المؤمنين في فلسطين وخارجها، وتمييز الصفوف حتى تتنقَّى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة وينكشف أمرهم للناس، وحتى يتعرف المؤمنون أنفسُهم على أنفسهم وما فيها من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين والنصر، فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم؛ فإذا ما تميّزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أتون الابتلاء، وخرج المؤمنون الصابرون الموحدون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلَّص من شوائبه بالحرق في النار؛ حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفَيْن الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين، ويمكِّن لهم دينَهم الذي ارتضى لهم. وقبل هذا التمحيص والتمييز؛ فإن سنة محق الكافر وانتصار المسلمين التي وعدها الله - عز وجل - عباده المؤمنين؛ لن تتحقق.
هكـذا أراد اللـه - عز وجل - وحكم في سننه التي لا تتبدل: أنّ محْقَ الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي - رحمـه الله تعالــى -: أيهما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو أن يبتلى؟ كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله - عز وجل - أن قال: (لا يمكَّن حتى يبتلى)، ولعله فهم ذلك من قوله - تعالى -: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ١٤١]؛ حيث ذكر الله - عز وجل - المحقَ بعد التمحيص.
حكم وألطاف إلهية:
ومن الحِكَم العظيمة والألطاف الإلهية التي ظهرت لنا في أحداث غزة في ضوء هذه السنة الربانية؛ ما يلي:
أولاً: ظهور المنافقين المندسين في الصفوف سواء أكان ذلك في صفوف الفلسطينيين أو خارجها، وهذه رحمة بالمسلمين، حيث انكشف أمرُهم، وافتُضِح نفاقهم وخيانتهم، وبذلك يحْذَرُهم المسلمون ويمقتونهم ويُعَرُّونهم.
ثانياً: تعرُّف المجاهدين أنفسهم على بعض الآفات والهَنات الكامنة في نفوسهم، وعلى قوة صبرهم وثباتهم، وكل هذا لم يكن ليُعرَف وينقدح زناده لولا هذه الابتلاءات والتمحيصات. وفي هذا خير - إذاً - أدى إلى العلاج والتخلص مما يكدر القلوب ويؤخر النصر.
ثالثاً: ظهر في الأحداث معرفة الولي المناصر من العدو والمخذل، وفي هذا خير للمجاهدين هناك؛ حيث تميز لهم الموالي من المعادي، وذلك على مستوى الأفراد والهيئات والحكومات.
3 - سُنة التغيير:
يقول الله - عز وجل -: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١]. ويقول - سبحانه - عن أحداث غزوة أحد المؤلمة للمسلمين: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.[آل عمران: ٥٦١].
ففي هاتين الآيتين تنبيه من الله - عز وجل - لعباده المؤمنين إلى أن يتفقدوا أنفسهم وواقعهم ومواقفهم، ويبدؤوا بالتغيير من الداخل إلـى ما يحبـه الله ويرضـاه؛ لأن أكثـر ما يؤتى المسلمون أفراداً وجماعات إنما هو من قِبَل أنفسهم. لذا؛ وجب في مثل هذه الأحداث محاسبة النفوس، ومراجعة المواقف، والبعد عن كل ما يسبب الهزائم وتسليط الأعداء من الذنوب والمعاصي والفرقة والأهواء، فمن هنا يبدأ التغيير ويبدأ الإصلاح. وقد يقول قائل: إخواننا هناك يواجهون الحصار والإبادة؛ فهل هذا وقت المعاتبة والمحاسبة؟ وأقول: نعم! هذا هو وقتها، بل هو أنسب وقت لها. وإن لم نملك الجرأة على طرحها الآن؛ فمتى نطرحها؟ وهـذا هو ما قاله الله - عز وجل - لأوليائه في غزوة أحد ودماؤهم طرية وجراحاتهم لم تندمل.
4 - سُنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين:
قال - تعالى -: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[آل عمران: ٨٧١].وقال - تعالى -: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: ٢٨١ - ٣٨١].وقال - سبحانه -: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْـخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: ٥٥ - ٦٥].
وهذه السُّنَّة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق، وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكِبْر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً، ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء، ومع ذلك نراهم ممكَّنين ولهم الغلبة الظاهرة، كما هو الحاصل الآن من دولة الأمريكان واليهود؛ حيث ظلموا وطغوا وقالوا بلسان حالهم ومقالهم: (من أشد منا قوة؟).
وقد يحيكُّ في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون، ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده! وقد يتسرب اليأس والإحباط إلى بعض النفوس، ولكن المسلم الذي يفقه سنة الله - عز وجل - ويتأملها، ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة؛ لا يحيك في نفسه شيء من هذا؛ لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم - وعلى رأسهم أمريكا ودولة اليهود - هم الآن يعيشون سُنّة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية؛ وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم. قال - تعالى -: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَـمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِـمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: ٩٥].
ففي الإملاء للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن؛ ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، حتى إذا آتت سُنّة الابتلاء أُكُلَها، وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفاً ممحَّصاً؛ عندئذٍ تكون سنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها؛ فيحقّ القول على الكافرين ويمحقهم الله كرامةً للمؤمنين الممحَّصين الذين يمكِّن الله لهم - عز وجل - في الأرض ويخلفون فيها بعد محق الكافرين. قال - تعالى -: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.[آل عمران: ١٤١].
فذكر الله - سبحانه - التمحيص قبل المحق، ولو محَقَ الله الكفار قبل تهيُّؤ المؤمنين الممحَّصين؛ فمن يخلفُ الكفارَ بعد محقهم؟
إن الله - عـز وجل - حكيم عليم، وما كان سبحانه ليحابي أحداً في سننه، ولله - عز وجل - الحكمة في وضع السُّنَّتين: سُنة الابتلاء وسنة الإملاء، في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران. قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: ٨٧١]. ثم قال بعدها: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.[آل عمران: ٩٧١].
ولعل من الحكمة - والله أعلم - أن يعلِمنا الله - عز وجل - أن هاتين السُّنَّتين متلازمتان ومتزامنتان، وأن إحداهما تهيئ للأخرى.
وفي الوقوف مع سُنة الإملاء فوائد، منها: عدم الخوف والاغترار بقوة العدو؛ ذلك لأن ناصيته بيد الله - عز وجل - والله - سبحانه - يملي له ليُمْحَـق لا ليدوم ظُلْمُه، ولو شاء الله - عز وجل - لقصمه، ولكن الله - عز وجل - له الحكمة في تأجيل هذا القصم. وهذا الإيمان يُذْهِب اليأسَ عن النفوس، ويزيل الإحباط والخوف الذي ينشأ من تسلط الأعداء وقوتهم.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. اللهم ارحم عبادك الموحدين، والطف بهم في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي كل مكان، اللهم احقن دماءهم، واحفظ لهم دينهم وأعراضهم وأموالهم، اللهم اشفِ صدورنا وأقرَّ أعيننا بنصرة دينك وأوليائك.. آمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.