يأخذ مركز المخطوطات في مكتبة الإسكندرية على عاتقة مشروعاً طموحاً يهدف إلى نشر ذخائر التراث العربي المخطوط في صورة رقمية، وإتاحتها للباحثين والمهتمين في كل أنحاء العالم. وضمن جهود المكتبة في مواكبة التقنيات الرقمية المعاصرة قام مركز المخطوطات برئاسة الدكتور يوسف زيدان، بإصدار سبع مجموعات رقمية لأهم المخطوطات العربية وأندرها، وقد كانت المجموعة الأولى مختارة من مجموعة بلدية الإسكندرية، التي آلت إلى مكتبة الإسكندرية وهي تضم: قصيدة "البردة" للبوصيري، و"ديوان" سلامة بن جندل، و"غِيَاث الأُمم فى التياث الظُّلَم" للجويني، و"البديع في نقدِ الشعر" لأسامة بن مُنقذ، و"اللُّمع" في النحو لابن جني، و"التاريخ الكبير" للمقريزي.
أما المجموعة الثانية، فمنتقاة من مجموعة مكتبة التراث الإسلامي في مسجد أبي العباس المرسي، و تضم: "الإصلاح والإيضاح" لابن كمال باشا، و "ديوان الأريب عن كتب الأعاريب" للسامولي، و "خلاصة الحساب" للعالمي،و " تلخيص البيان عن مجازات القرآن" للشريف الرضي،و "مجموعة رسائل في الإسطرلاب" لمؤلفين عدة،و "جامع المسانيد والألقاب" لابن الجوزي، و"مقالة في علم الهيئة" لابن الهيثم.
وتضم المجموعة الثالثة وهي مختارة من مكتبة المعهد الديني في سموحة: "شرح الإعراب" للكافيجي، و "مرآة الأصول" لملا خسرو، و "تلقيح الأفهام" للكلاباذي، و "مبادئ الوصول" لابن المطهر، و "الجامع الوجيز" للبزازي،و "منظومة الخلاف" للنسفي، و"الدرة المضية" لأبي بكر الحنفي.
ثم جاء إصدار المجموعة الرقمية الخاصة بجامعة أوبسالا ليكون بمثابة نقلة نوعية وخطوة تطوير لمشروع المكتبة الرقمية للمخطوطات، إذ حلقت مكتبة الإسكندرية بهذا المشروع إلي الأفق الأوروبي، إضافة إلى وضعها بصمة ميزة في التطور التقني في نظام عرض النسخة الرقمية للمخطوطات.
فقد قام مركز المخطوطات بإصدار مجموعة رقمية جديدة تتضمن نسخاً طبق الأصل من المخطوطات التي تقتنيها مكتبة جامعة أوبسالا السويدية، إحدى أعرق الجامعات الأوروبية، وتضم خمسة ملايين كتاب، إضافة إلى 1280 مخطوطة شرقية، منها نحو 540 باللغة العربية، والمتبقي منها بالفارسية والتركية، في ما يعد خطوة تحديث المعرفة التراثية وإنجازاً يضاف إلى رصيد مركز المخطوطات، الذي يعتبر من أهم المراكز التراثية العاملة في مجال المخطوطات على مستوي العالم، ليضيف بذلك إلى مكتبة الإسكندرية بعداً مهماً كقلعة دولية من قلاع المعرفة.
ويرجع تاريخ هذه المجموعة الشرقية إلى بداية القرن الثامن عشر، وكانت النواة الأولى لها المجموعة التي أهداها اللغوي [شبارفنفلت] الذي كان من هواة جمع الكتب، ثم ازدادت أعداد المخطوطات في مكتبة الجامعة، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
ويقول الدكتور زيدان أن هناك فهارس عدة لمخطوطات أوبسالا، كان أسبقها ظهوراً فهرس [كارل يوهان تورنبرج] (1807- 1877) وآخرها صدوراً فهرس [كارل فلهلم تسترستين] (1866- 1953) وهناك بطاقات فهرسة داخلية في المكتبة لتسهيل الوصول إلى المخطوطات.
هذا وقد اختار مركز المخطوطات ستاً من أندر المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة أوبسالا ليعرضها كاملة في صورة رقمية، مع برنامج تصفح طوره المركز، والمخطوطات المختارة هي:
1- "الحِيَلُ الرُّوحَانِيَّةُ" و مؤلِّف هذه المخطوطة الفيلسوف الشهير أبو نصر الفارابي الذي توفي في دمشق عام (339هـ - 950م) وهو الملقب بالمعلم الثاني لدراسته كتب أرسطو (المعلم الأول) وشرحه لها، وقد لقب بالفارابي نسبة إلى بلدة فاراب الخراسانية، و عنوان الكتاب كاملاً كما خطه الفارابي "الحيل الروحانية والأسرار الطبيعية في دقائق الأشكال الهندسية" وكان القدماء يستخدمون تعبير الحيل الروحانية للإشارة إلى ما نسميه اليوم الميكانيكا. يتألَّف الكتاب من عشر مقالات، وقد ألَّفه الفارابي كما هو ثابت عليه عام (321هـ - 933 م) أما المخطوطة فقد نُسخت بقلم معتاد، في القرن التاسع الهجري تقديراً، وهي مؤطرة وملونة ، عليها حواشٍ مع رسوم توضيحية، وبأطرافها آثار ترميم قديم.
2- "الحكمة العروضية" للوهلة الأولى، تبدو هذه المخطوطة النادرة وكأنها رسالة في علم العروض وقوافي الشعر العربي، لكنها في الواقع رسالة في المنطق كتبها أشهر فلاسفة وأطباء العرب الرئيس، أبو علي الحسين (ابن سينا) المتوفى عام (428هـ - 1036م).
والالتباس في العنوان منشأه، أنّ ابن سينا كتب الرسالة لصديقٍ له، هو أبي الحسن أحمد بن عبد الله العروضي فعرفت باسمه، وكان ذلك عام (391 هـ - 1000م) أي في فترة مبكرة من حياته، إذ توفي ابن سينا وهو في الخمسينات من عمره.
المخطوطة عبارة عن مقدمة في المنطق الأرسطي. وبالطبع أضفى ابن سينا على الرسالة طابعاً إسلامياًّ (ظاهرياًّ) وهو ما يبدو في عبارة «الحمد لله»، التي تبدأ بها المخطوطة، حيث نراه يحمد الله (واهب العقل وملهم الصواب) لكنه سرعان ما يغوص في تفاصيل المنطق (الأرسطي) متَّبعاً التقسيمات المعتادة له: القضايا، البرهان، طوبيقا (الجدل)، سوفسطيقا (المغالطات) ريطوريقا (الخطابة).
كما تشتمل المخطوطة على مجموعة مقالات في العلم الطبيعي أهداها ابن سينا للصديق نفسه (العروضي) وهي مقالات مهمة.
والمخطوطة بحالة جيدة، ترجع للقرن السابع الهجري تقديراً، وقد نقلها الناسخ من مخطوطة المؤلِّف المؤرِّخة عام (391 هـ 1000م) وكتبها بقلم معتاد، وهي مشكولة ومرممة وعليها آثار رطوبة وترميم قديم.
3- "كُمَامَةُ الزَّهْر" لابن عبدون أبي محمد عبدالمجيد بن عبدالله الفهري الأندلسي، المتوفى عام 527 هـ - (1132م) والكتاب عبارة عن قصيده الشهيرة، التي يرثي فيها دولة بني الأفطس، ويستعرض خلال أبياتها وقائع الزمان ودول الملوك والخلفاء.
وكان ابن بدرون (عبد الملك بن عبد الله الحضرمي السبتي، المتوفى بعد عام (608 هـ - 1211م) وهو أحد أدباء الأندلس المعروفين، قد سمع القصيدة في محفل أدبي يضم - كما يقول في بداية المخطوطة – «فرسان النثر والنظم»، فأراد أن يشرحها: ليقرب على مَنْ أراد علم علومها. وجعل ابن بدرون شرحه على قصيدة ابن عبدون، بعنوان طويل، مسجوع: "كمامة الزهر وفريدة الدهر وصدفة الدر".
ولقصيدة ابن عبدون مكانة خاصة في أدب الرثاء، وقد عدها عبد القادر بن عمر البغدادي (صاحب: "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" واحدةً من إحدى أهم القصائد العربية.
والمخطوطة جيدة، يرجع تاريخ نسخها إلى القرن العاشر الهجري، وهي: مزخرفة من أولها ومرممة ومشكولة، بها آثار رطوبة وخروم، عليها حواش.
4- "ميزان الطبيب" لابن البيطار ضياء الدين، أبي محمد، عبد الله بن أحمد المالقي ، المتوفى عام 646 هجرية وهو من أشهر العشَّابين (الصيادلة) في تاريخ الإسلام.
ومن الصحيحٌ أن الصيدلة كانت مجالاً لتأليف عدد كبير من علماء العرب أمثال البيروني و الرازي وابن سينا و ابن النفيس .. وغيرهم، بيد أن ابن البيطار يظل أكثر هؤلاء شهرة، وتظل كتبه أكثر المصادر الصيدلانية تداولاً في القرون التالية لوفاته.
ترك ابن البيطار مجموعة من المؤلَّفات المعروفة التي طالما اعتمد عليها الصيادلة من بعده، مثل: الجامع "جامع مفردات الأدوية والأغذية" و "المغني في الأدوية المفردة" و"مقالة في الليمون" .. أما "ميزان الطبيب" فهو من أكثر أعماله ندرةً، ولا تتوافر نسخُه الخطيةُ في مكتبات العالم .
وهذه المخطوطة التي تعود إلى القرن العاشر الهجري، واحدة من تلك النسخ الخطية النادرة لهذا الكتاب، الذي يكشف عنوانه عن مضمونه بوضوح، فهو يشتمل على ثمانين باباً، كلها في معرفة العلاج اللازم للأمراض، ومن ثم فهو كتابٌ جامعٌ بين الطب والصيدلة.
5- "الجوهرتين العتيقتين" مخطوطةٌ نادرةٌ من كتابٍ عربي نادر الوجود، لمؤلِّف غير مشهور وفي مصادر أخباره ندرة! إذ لا يزيد ما نعرفه عن المؤلِّف على أنه: شاعر فيلسوف من أهل اليمن، اسمه الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف وكنيته: أبو محمد، ولقبه ابن الحائك الهمداني .
والمراد بالجوهرتين هنا، ويا للغرابة: الذهب والفضة، مع أن الجوهر لغةً واصطلاحاً يختلف عن المعدن الذي منه الذهب والفضة. لكن المؤلف، يخصص كتابه لهذين المعدنين النفيسين، فيتحدث عن كل ما يتعلق بهما من مأثورات وأقوال وطبائع ومواضع وعيار وأوزان وعملات مصكوكة منهما. وحديث المؤلِّف في المخطوطة، يختلط فيه المنهج العلمي الاستقرائي، بالتمويهات الكيميائية والفلسفية التي كانت سائدة في عصر المؤلف. أما المخطوطة ذاتها، فهي نسخة بحالة جيدة، ضمن مجموعة، كتبت بقلم معتاد، عام 898 هـ - (1492م)، وملحق بها رسالة في أسماء البلاد.
ويعد هذا العمل الذي قام به المركز و أدخل بموجبه هذه الكتب دائرة المكتبة الرقمية التي يستفيد منها الناس خطوة نحو أفقٍ جديدٍ من آفاق المشروع الرقمي الذي بدأه مركز المخطوطات،و ستتبعها خطوات أخرى في المسار ذاته. ويجري العمل الآن لإصدار مجموعة من مختارات المكتبة الملكية في السويد.
مما يؤكد اهتمام المركز بالتراث القديم، واستخدام التقنيات المعاصرة في حفظ التراث العربي لتنهل الأجيال الآتية من معينه الذي لا ينضب.
___________
الحياة اللندنية بـ"تصرف"