إذا أردت لدعوتك أن تكون قوية مؤثرة تجمع عليها الناس، يؤيدونها ويناصرونها، فعليك أن تـكـون واضـحـاً في عـرضـهـا، واضـحاً في عرض أهدافها، اذكر الحقيقة التي تؤمن بها ناصعةً وبصورة حاسمة، أما الغمغمة واتباع الطرق الملتوية، فهذا سيبعد الطريق ولا يؤدي إلى الـغـرض المـطـلـوب، فإن من أعظم الأسباب التي تساعد على نجاح الدعوات وضوح المنهج، ووضوح الغايات والوسائل، فهذا مما يؤلف الناس ويجمعهم ويشجعهم، والغموض والضبابية مما يبعدهم وينفرهم، ومـعـنـى هـذا أن أفـراد الدعوة أنفسهم يجب أن يكونوا متشبعين بـفـهـمـهـا، وفـهـم أهـدافها ووسائلها، وإذا لم يكونوا كذلك فهناك التشويش والخلط بين المراحل الأولى والمراحل الأخيرة، الذي يؤدي إلى التعثر والتخبط.
لقد كانت الأهداف المرحلية واضحة تماماً في السيرة النبوية، كان دعاؤه - صلى الله عليه وسلم- مركزاً وواضحاً في البداية، دعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده، وترك كل ما يعبد من دون الله من أصنام وطواغيت وأهواء وشهوات، ثم انتقل إلى مرحلة البحث عن مكان آمن للدعوة وأهلها، وأن تكون منطلقاً للتمكين في الأرض. فيسر الله له أهل يثرب، ودخلوا في دين الله وانتقلت الدعوة إلى الدولة، ثم انتقلت الدولة من مرحلة الجهاد الدفاعي إلى مرحلة الجهاد، حتى يكون الدين كله لله.
وهذا الوضوح لا يعني الجمود على وسائل معينة لا نبرحها، فهناك مراحل تنتقل بها الدعوة وتحتاج إلى التجديد. وليس معنى التجديد أن نتخلى عن الهدف ولا عن الوضوح تحت أي مسمى أو نتخاذل عنه تحت أي ضغوط.
قد يعن للمسلم أمور واجتهادات يظن أنها تقوي الدعوة أو تفتح لها آفاقاً جديدة، ومن هذه الاجتهادات: الشعار المرفوع في هذه الأيام وهو شعار (الاعتدال) و(الانفتاح)، وهذا إن كان حقاً في حد ذاته ولكنه يؤول إلى نوع من الباطل حين يصير إلى تمييع الثوابت والعقائد، إن الإسلام دين مبني على الفطرة السليمة، والسماحة، ومراعاة الاعتدال لا شك في ذلك إذا كان المقصود عدم التنطع والمشادة، ولكن مصطلح الاعتدال أتى في هذه الأيام كرد فعل على واقع معين وعلى تشدد في غير محله، وردات الفعل لا تؤدي إلى الطريق الصحيح عادة، وكذلك عندما يكون الإنسان مسكون بعقدة معينة؛ لأن هذا ليس منهجاً مؤصلاً وجادة مستقيمة، ولذلك نشاهد أن هذا الانفتاح في بعض المناطق وبعض الأحيان تحول لغير مصلحة الدعوة، وفي الوقت نفسه ابتعد هذا الانفتاح عمن هو أقرب للحق والصواب، ولا يعني هذا أن نغلق باب الحوار مع الآخرين للوصول إلى الحق أو قريباً منه.
إن من الغش للدعوة أن يغفل المسلمون عن منهج قرآنهم وسنة نبيهم في المحاورة والمجادلة والتعامل مع أهل البدع وأهل الأهواء؟! ومن الغش للمنهج أن نسوق لأهل الأهواء ونظهرهم بصورة حسنة أمام الناس بحجة الانفتاح.
إن الانفتاح الحقيقي يجب أن يكون مع جماهير الأمة الذين هم أقرب للفطرة وأقرب للاستجابة، والذين هم أكثر تضحية عند الملمات، والانفتاح يجب أن يكون مع العلماء الذين يحملون هموم الأمة، وهم موضع احترام وتقدير الناس.
التجديد لا يكون إلا مع وجود ثوابت يدور حولها التجديد، وتدور حولها المتغيرات حسب الزمان والمكان، نحن مع الانفتاح ولكن من منطلق الثوابت حتى لا يتسلل المنحرفون والانتهازيون إلى مؤسساتنا الثقافية والدعوية.
إن أوقاتنا أثمن من أن نضيعها في الأخطاء واكتشاف الأخطاء ثم التلاوم والتدابير، وقد قال - تعالى - مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم - محذراً من التنازل والتساهل مع المنافقين: "وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (المائدة: من الآية49).
إن وضوح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والإصرار عليه جعل بعض العرب يعجبون بالدعوة وصاحبها، فإن الإصرار على الحق والدفاع عنه لا بد أن يوقظ الناس، وسيقولون لو لم يكن هذا الشيء حقاً لما دافع عنه الناس بهذه التضحية.
وهذا الإصرار يتلوه النجاح ، وهذا أيضاً من أسباب إقبال الناس عليه ، فإن الدعوة الحق لا بـد أن تـنـجـح ولو في بـعـض المراحل أو بعض الأحيان ((واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)) ، أما فشلها مرة بعد مرة، فهذا دليل على أن أفرادها لم يميزوا من المقصد والوسيلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كلام الدكتور محمد العبدة (بتصرف)