كانت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي أسسها الألماني " مارتن لوثر " في القرن السادس عشر أول حركة اضطلعت باستكشاف الأفكار الصهيونية المتعلقة باستعــــــادة ما يسمى: " الأمة اليهودية " واستعادة فلسطين " وطناً لليهود " ؛ إذ كان لوثر أول من دعا عام 1523م في بداية حياته إلى دراسة اللغة العبرية ، وركز على دور التوراة في الحياة المسيحية ، وفضل المبادئ اليهودية البسيطة على تعقيــــدات اللاهوت الكاثوليـــكي ، حتى وُصفت حركته بأنها " بعث عبري " أو " يهودي.
" (1) تولدت عنه وجهة نظـــر جديدة عن الماضي والحاضر اليهودي ، وعن مستقبله بشكل خاص ، مهدت الرأي العام الغربي ـ خاصة في إنجلترا ، ثم في الولايات المتحدة فيما بعد ـ إلى أن يقبل التفسير اليهودي للعهد القديم ، خاصة التفسير القائل بارتباط زمن نهاية العالم بعـــــودة المسيح الثانية ، وأن هذه العودة مرتبطة بمُقدمة تشير إلى عودة اليهود إلى فلسطين(2) .وإذا كان " لوثر" قد عبَّر في المرحــلة الأخيرة من حياته عن كــــرهه لليهود ، وألَّف عام 1544 كتابه " فيما يتعلق باليهود وأكاذيبهم " ، وطالب بطردهم من إنجلتـــرا ، فإن هذا المطلب كان الهدف منه ـ وكما كشف ذلك لوثر نفسه ـ هو حثهم على العودة إلى ما أسماه " أرضهم يهودا ـ فلسطين " (3) ، ولقد اعتذر أتباعه بعد مرور نحو (400) عام على ما ورد في مؤلفاته الأخيرة من تعبيرات " فظة وقذرة " بشأن اليهود، وذلك عنــدما اجتمــع الاتحاد العالمي للوثريين في 11-7-1983م ، في مؤتمر عقد في " استوكهــــــولم " في السويد، وأعلن الحاضرون عن " عدم التزامهم بكل ما صدر من لوثر بشأن اليهود " .
وفي الشهر نفسه عقد نحو 1100 شخص ـ يمثلون أكثر من 2.7 مليون لوثــري أمريكي " رؤساء الكنيسة اللوثرية الأمريكية ـ " مؤتمراً في مدينة " سانت لويس " وأعلنوا عن أسف اللوثريين وعدم علاقتهم بالملاحظات المتطرفة التي سبق لمارتن لوثر أن أبداها تجاه اليهود(1).
وإذا كانت الكنيسة البروتستانتية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكيـــة لا زالت على موقفها المؤيد لمخططات اليهود في فلسطين بدعوى أنها إحدى علامات قــرب العودة الثانية للمسيح؛ فإن الفكر الكاثوليكي التقليدي ـ قبل عهد الإصلاح الديني ـ لم يكن فيه أدنى مكان لاحتمال العودة اليهودية إلى فلسطين ، أو لأية فكرة عن وجود " أمة يهودية " وكان يُعتقد أن الفقرات الواردة في التوراة ـ وبخاصة في العهد القديم التي تشير إلى عودة اليهودة إلى " وطنه م" ـ لا تنطبق على اليهود ؛ بل على الكنيسة المسيحية مجازاً.
أما اليهود فإنهم ـ طبقاً للعقيدة الكاثوليكية الرسمية ـ اقترفوا إثماً فطردهم الله من فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم الله ثانية، وبذلك انتهى وجود ما يسمى " الأمة اليهودية " إلى الأبد ، ولذلك فليـــس لليهود مستقبل قومي جماعي؛ ولكن ـ باعتبارهم أفراداً، كما يعتقد الكاثوليكيون ـ يستطيعون أن يجدوا الخـلاص الروحي " بارتدادهم إلى المسيحية " .
أما النبوءات المتعلقة بعودة اليهــود فإنها كانت تُؤَوَّلُ على أنهـــا عودة الإسرائيليـــين من المنفى في بابل، وأنه تحقق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد حين أعادهم ( قورش ) إلى فلسطين .
ولذلك ظل التناقض قائماً بين الحركـــ ة الصهيــــونية منذ مؤتـــمر " بازل " عام 1897م والعقيدة الكاثوليكية بمركزها الديني في الفاتيكان .
وقد أكد على ذلك البابا " بيوس العاشر" في لقائه مع الزعيم الصهيوني " هرتــزل " عام 1904م ؛ حيث أعلن البابا معارضته للحركة الصهيونية ولهجرة اليهود إلى فلسطين ، ثم اعترضت الكنيسة الكاثوليكية على وعد بلفور عام 1917م .
وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وبسبب الدعاية الصهيونية حول ما يسمى : " معــــاناة اليهود خلال الحكم النازي " تعاطف بعض الكاثوليك مع الفكرة الصهيونية ؛ إلا أن موقـــف الفاتيكان انحسر في الإعلان عن تأييد مسألة (تدويل القدس)، وفق الخطة التي أقرتها الأمم المتحدة حول فلسطين عام 1947م ، وكان موقف الفاتيكان من قيام " إسرائــــــــيل " عام 1948م هو الحيـاد ؛ أي " لا اعتراف ولا إدانة " مع تزايد الاهتمام بتدويل القدس ومسألة اللاجئين العرب . وفي عام 1985م ، وبعد تولي البولندي " وتيلا " كرسي البـابوية تحت اسم " البابا يوحنا بولس الثاني " بثلاث سنوات شرع الفاتيـــكان في تقديـــــم مجموعة من التنازلات إزاء اليهود ، اعتبرت تمهيداً لتخليه عن القضية الفلسطينـــية وتوطئة لدخوله في مصالحة روحية وسياسية مع اليهود ؛ حيث فاجأ بابا الفاتيكــان العــــــالم بتبرئة اليهود من خطيئة تعذيب وصلب وقتل السيد المسيح ـ عليه السلام، كما يعتقد المسيحـــيون ـ وذلك من خلال وثيقــــة أقـــرها الفاتيــــكان ؛ حيث دعت الوثيقة إلى ما أسمته بـ " تصحيح علاقة " المسيحيين واليهود ، والعمل على إعادة النظر في التراث الكنسي نفسه ، وتعديل ما يمكـن تعديله بقصد نزع كل ما يؤدي إلى تكوين وعي معاد لليهود داخل الكنيسة الكاثوليكية.
ولتمثيل الحوار المسيحي الكاثوليكي ـ اليهودي ، ولنزع كل ما هو " معاد " لليهود أنجـــز البابا خطوة مهمة بزيارة المعبد اليهودي ( سينفوغا ) في العاصمة روما ، وطالب بإعادة تفسير العلاقة المسيحية ـ اليهودية بدءًا من إعادة دراسة الكتاب المقدس والعهـــــد القديم والطقوس والشعائر والصلوات والتراتيل التي تمارس داخل الكنائس بقصد إعادة تأويلهــا بما يفيد تبرئة اليهود من " خطيئة قتل المسيح وصلبه " وإعادة صيغة التراث الكاثوليكي، والكتاب المقدس بما يناسب النظر إلى اليهود نظرة جديدة " أكثر تفهماً وتسامحاً" والتأكيد على الأصول المشتركة للدينيْن ، وعلى الأصل اليهودي للسيد المسيح ولم يكن إصدار تلك الوثيقة الفاتيكانية خطوة أخيرة ، بل تبعتها خطوات لاحقة في الإطار نفسه ؛ حيث اعترف الفاتيكان عام 1993م بالكيان الصهيوني .
وفي نوفمبر من عام 1997م ـ وفي إطار استعــداداته لاحتفالات الألفيـــة الثالثـــة ـ عقـــد الفاتيكان مؤتمراً حضره ( 60 ) شخصية من أبرز رجال الكنائس العالمية لتدشين مجموعة من الاقتراحات تمهيداً لصدورها في وثيقة تحت عنوان: " جذور معاداة اليهود في الأوساط المسيحية " وصف البابا بولس الثاني الهدف منها بأنه " إجراء عملية ترتيـــب وتنظيـــف للذاكرة المسيحية من الشوائب والأفكار المعادية للشعب اليهودي" ، وفي 12-3-1998م ، وقَّع بابا الفاتيكان على وثيقة باسم: " نحن نتذكر" وصادق الفاتيكان على محتوياتها رسمياً يوم 16-3-1998م ووصفها البابا بأنها: " طلب غـــفران للأخطـــاء التي ارتكبهــا بعــض المسيحيين في حــق اليهود " ووصفــها الكاردينـــــال " ادوارد كاســـيدس " ـ رئيس لجنة العلاقات اليهودية ـ المسيحية بأنها : " إقرار بالشعور بالندم ، واعتراف بالخطيـــئة الــــتي ارتكبها بعض المسيحيين في حق اليهود " .
وأعلن الفاتيكان " أن توبة المسيحيين تجاه اليهود يجب أن تكون فردية وجذرية وشاملة ، وأنه لا تكفي التصريحات الصحافية والمراجعات النقدية لمحو خطايا الماضي التي أدت إلى المحرقة النازية ".
وصرح أحد أعضاء لجنة الصياغة لهذه الوثيقة لصحيفة الفاتيـــكان الرسمية " المــــراقب الروماني " أن الفاتيكان سيراجع ويعدِّل عدة نصوص دينية في العهد الجديد لتحاملها على اليهود، كما سيتم تعديل في إنجيلي متَّى وبولس وقصة الحواريين برمتها إرضاءًا: لليهود. والأخطر من ذلك أن المؤتمر ـ المشـــار إليه سابقاً ـ أشـــار إلى أن المسيحيـــــين واليهود يتقاسمان الاعتقاد في " الإله يهوه ـ الرب اليهودي ـ وأن المسيح والحواريين وُلدوا يهوداً وعاشوا على ارتباط عضوي بالكنيس اليهودي .
ولعل الفاتيكان بتلك " الوثيقة " قد خطا خطوات واسعة نحو " تهويد الكاثوليكية " ، بعـد " تهويد البروتستانتية " على يد " لوثر " في القرن السادس عشــــر ؛ إذ إن الاعـــــتذار الفاتيكاني الأخير، دعا المسيحيين صراحة إلى مد جسور التواصل مع تعاليم العهد القديم ، وألح على التعاطي مع اليهودية السياسية الراهنة، كوريثة روحية للسامية، ودعا أيضـــــاً إلى إنهاء الفصل الذي طالما أجرته الكاثوليكية بين التاريخ الديني اليهودي القديم واليهود الحاليين، مما يجعل فكرة "الحلم اليهودي" أو " العودة إلى أرض الميعاد ـ فلسطين " من ثوابت التعينات العقدية الكاثوليكية في المستقبل ؛ ولذلك لم تكــــن مصادفة بريئة أن يبرم الفاتيكان في نوفمبر 1997م ـ وهو التوقيت نفسه لانعقاد مؤتمره الذي ناقــش فيه وثيقة الاعتذار لليهود ـ اتفاقاً لأول مرة مع الكيـــــان الصهـــــــيوني يمنح الكنيسة الكاثوليكيـــة ومؤسساتها في القدس وضعاً قانونياً واستقلالاً إدارياً في الداخل؛ غير أن الاتفــــاق قضى بتطبيق القانون الإسرائيلي في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالعالم الخارجي، وهو ما يعـــــد اعترافاً ضمنياً من قِبَلِ الفاتيكان بأن مدينة القدس هي " عاصمة الكيان الصهيوني ".
ويبقى أن نشير إلى أن الوثيقة الفاتيكانية ، قد جاءت استجــابة للتيار الأساسي السائد في العالم الغربي الآن ، والذي يزداد يوماً بعد يوم ولعـــــاً بفكــرة " الصدام الحضــاري " وأن الإسلام هو " العدو " البديل للغرب ـ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي .