مليئة هى الحياة بما يعكر صفوها، ويفسد بهجتها، وكما يقولون: «دوام الحال من المحال».
هكذا الدنيا، فرح وحزن، سعة وضيق، يسر وعسر، وفى لحظات الشدة والضيق يلجأ الإنسان كهلاً كان أم شابًا، صغيرًا كان أم كبيرًا إلى خليله وصاحبه يبث إليه همه، ويستعين به بعد الله على صعاب الحياة ، أو كما يقولون: «يفضفض إليه»،
وقديمًا قال الشاعر العربى:
إن أخاك الصدق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
فمن هو ذلك الصديق الذى تفضفض إليه؟ وأين ومتى تلجأ إليه؟ ولماذا ائتمنته على سرك دون غيره من الأهل والأصحاب؟
هذه التساؤلات وغيرها تحاول السطور التالية أن تجيب عليها:
أمى تحمل همى
يقول عبد الرحمن محمد - مدرس: أنا متزوج، والمفروض أننى أبوح لزوجتى بكل شيء، لكننى بصراحة لا أفعل ذلك؛ فأنا أفضل الفضفضة مع أمى، ليس لأننى لا أثق بزوجتى، لكن لأننى تعودت أن أحكى ما يضايقنى لأمى لأستفيد من خبرتها وحكمتها، فقد عودتنى أن تعطينى دائمًا حلولاً جذرية وفعالة.
أما فرح محمد - طالبة جامعية - فتؤكد أن كل إنسان فى حاجة إلى أن يحكى عما يضايقه، فذلك يخفف عنه وطأة الضيق والحزن، وتقول: تراكم الهموم يؤدى إلى اضطرابات نفسية وعصبية، أنا شخصيًا ألجأ إلى أختى الكبرى فهى أقرب الناس إلى قلبى، وبذلك أضمن أن تكون مشكلتى فى يد أمينة، ومع أناس موثوق بهم.
وغابت صديقتى
وتكشف علياء حسنى عما تشعر به من أسى قائلة: فى الماضى كنت أفضفض إلى صديقتى، ولكن بعد سفرها لإكمال الدراسات العليا فى الخارج لم يبق هناك من أفضفض إليه وأشركه فى أمرى، فكم تركت صديقتى فراغًا كبيرًا فى حياتى، فأنا أعد الثوان والدقائق أنتظر عودتها.
تعودت الكتمان
بينما يختلف عمرو كامل - مهندس - مع سابقيه قائلاً: لم أتحدث يومًا عن مشكلات مع أحد، لقد تعودت الكتمان، ويعجبنى قول القائل:
إذا المرء أفشى ســره بلسانــه ولام عليه غيره فهـو أحمــق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذى يستودع السر أضيق
وإذا كان هذا هو رأى عمرو، فإن نهى تصدق عليه، إذ لم تعد تأمن أحدًا على سرها، فقد اعتادت أن تحكى كل أسرارها لصديقتها، ثم صدمتها صديقتها وأباحت بأسرارها، وتصف صمتها قائلة: وقع الخبر عليّ كصفعة قوية على وجهى، فقد اكتشفت مؤخرًا أننى أسأت الاختيار، وأن عليّ أن أبحث من جديد عن قلب مخلص يكتم سرى.
فضفضة فريدة
ويحب محمد أن يفضفض إلى ربه - فيصف لنا هذا النوع من الفضفضة قائلاً: كلما أهمنى أمر أتذكر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهكذا كلما اشتدت بى الملمات توضأت، وصليت ركعتين، وأناجى ربى، فهو سبحانه القائل: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء..}، وألهج بأذكار الكرب والشدة، أو أصلى الاستخارة بعدها أشعر براحة شديدة، وهذه الصلة الوثيقة بالله أتمنى لو تتمكن من قلبى، وتملأ وجدانى ونفسى، فتغنينى عن الناس، وتريح قلبى.
ولرب ضائقة يضيق بها الفتى ذرعًا وعند الله منها المخرج
وظيفة اجتماعية
إذا كان هذا هو حال الناس مع الشدائد والهموم، فما هى جدوى هذه الفضفضة؟ وما أثرها على الأفراد والمجتمع؟
يجيبنا د. أحمد المجدوب - مستشار المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية - قائلاً: تحتاج النفس البشرية من حين لآخر إلى نوع من التفريغ تنفس فيه عن آلامها وغضبها، وما زالت الفضفضة من مزايا المجتمع الشرقى، عكس ما يبدو فى المجتمعات الغربية التى يتميز أفرادها بالعزلة، والانكفاء على الذات.
فنلحظ فى الغرب أن هذه الفضفضة مكلفة للغاية؛ إذ لا تكون غالبًا إلا مع الطبيب النفسى، فقلما نجد هناك صداقات أو علاقات اجتماعية بين الأفراد، تجعلهم عونًا لبعضهم على الشدائد، بل يطغى الجانب المادى دائمًا على جانب الروح، فلا يسمح أحد للآخر أن يحدثه عن همومه ومشاكله، فلا يجد من يسمعه سوى الطبيب النفسى الذى ارتفع مستواه المادى والاجتماعى كثيرًا فى الغرب.
أما فى الشرق، فما زالت العلاقات الاجتماعية بخير والحمد لله، الأمر الذى يشجع المرء على الاستعانة بمن حوله، وهذه الفضفضة إلى جانب أنها تخفف الضغط النفسى عن المهمومين أو المحزونين، فلها أيضًا وظيفة اجتماعية بالغة الأهلية؛ إذ توثق الروابط بين الناس، وتجعل المرء يشعر أنه مقبول اجتماعيًا، أن هناك من يقف بجانبه، ويحمل معه العبء، بينما يشعر أمين سره أنه موضع ثقة الآخرين واحترامهم.
حافظ السر
وإذا كانت الفضفضة تمثل عملاً إنسانيًا بالغ الأهمية، فمن هو الذى تأمنه على سرك ؟
تجيب د. آمنة نصير - أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر - قائلة: يجب علي المرأة أن تختار الصديقة الوفية الصدوقة التى تشركها فى أمرها، وكذلك الرجل لا بد أن يحسن اختيار من يسر إليه؛ إذ لا بد أن يكون هذا الصديق كتومًا أمينًا لا يجعل من أسرار صاحبه مادة للتسلية فى المجالس، والنبى (صلى الله عليه وسلم) نصحنا قائلاً: «إذا حدث أحدكم صاحبه بحديث ثم التفت فهى أمانة».
ولا يكفى أن يكون هذا الصاحب أمينًا فقط، بل لا بد أن يكون ناضجًا مجربًا لأمور الحياة، ولديه خبرة اجتماعية مالية، حتى يوجه صاحبه إلى الحل السليم، ولا يسكب الزيت على النار فيزيد آلام صاحبه بدلاً من أن يخفف عنه.
الجئوا لأهل العلم
وتتفق معها د. ناهد الملا - مدرس الشريعة بكلية دار العلوم - فى الرأى وتضيف: لم تكن هذه الثرثرة أو «الفضفضة» معروفة فى عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) وصحابته و التابعين، فقد كان هؤلاء القوم الكرام منشغلون عن الكلام بالعمل، وكان الرضا يملأ قلوبهم فيرون الصعاب والابتلاءات ضئيلة بجوار نعم الله التى لا حصر لها.
وقد ورد أن الصحابيات ذهبن إلى عائشة (رضى الله عنها) يسألنها عن أمور الحياة، وكذلك سألن النبى (صلى الله عليه وسلم)، فيا حبذا لو اقتدينا بهن، واكتفينا باستشارة أهل العلم والورع، بدلاً من إضاعة الأوقات فى مكالمات التليفونات أو الثرثرة هنا وهناك.
ومع ذلك لا تجد د. ناهد حرجًا فى أن يشكو المرء من ظلم وقع عليه لمن بيده أن يساعده على استرداد حقوقه، فتقول: لو وقع الظلم على الإنسان فعليه أن يستعين بكل من يمكنه من أخذ حقه، ودفع الظلم عنه ، والله (عز وجل) يقول: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}، أما أن يحكى لكل من هب ودب، كما تفعل بعض النساء اليوم، فتصبح مشكلتها حديث العائلة كلها، فهذا أمر مرفوض شرعًا وعقلاً .
فلا تتحدث إلا لمن هو أهل لحمل الأمانة، وقد ورد أن هند بنت عتبة شكت للنبى (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فأرشدها النبى (صلى الله عليه وسلم) قائلاً: خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف». وهكذا تلجأ المرأة إلى من يحل ويربط دون ضجيح أو صخب ، وكذلك الأمر بالنسبة للرجل.
فضفضة محرمة
وتحذر د. آمنة نصير كل زوج من كشف أسرار علاقتهما الخاصة أمام الناس، فقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يفضى أحد الزوجين إلى الآخر فى المساء، وفى الصباح يقص ما كان بينهما إلى الناس.
مصالح الآخرين
ويدعو د. المجدوب إلى اختيار المكان المناسب الذى يتحدث فيه المرء عن مشكلاته؛ إذ لا يجوز له أن يضحى بمصالح الآخرين فى سبيل أن يشكو همه لهم، فقد أصبحت ظاهرة الفضفضة وباءًا فى كثير من المصالح الحكومية، ومكاتب الموظفين.
فقد ذكرت إحدى الإحصائيات أن متوسط عمل الموظف المصرى فى اليوم 26 دقيقة فقط، وباقى وقت العمل يقضيه فى الحديث والفضفضة.
الاصطياد فى الماء العكر
وتشاركه د. آمنة الرأى، وتحذر السيدات من كشف أسرار بيوتهن مع زملاء وزميلات العمل، فهذا السلوك فيه إهدار لكرامة المرأة، وكرامة أسرتها، وهو إغراء لكثير من ذوى النفوس الضعيفة التى تسعى للاصطياد فى الماء العكر، وكثيرًا ما قرأنا عن مصائب حدثت من وراء هذا الخطأ الجسيم، فعندما تتحدث المرأة لزميلها الرجل عن مشاكلها قد يتعاطف معها، ثم يحدث ميل قلبى بينهما، وربما استمرت العلاقة وتطورت حتى يقعا فى الإثم لا قدر الله.
كن عاقلاً
إذا كانت هذه ضرورة الفضفضة، فليكن كل منا عاقلاً، ويمسك بزمام لسانه فلا ينطلق بالشكوى إلا لله تعالى ثم لمن يظنه سببًا لانفراج أزمته، وإلا كان حديثه ثرثرة فارغة قد يندم عليها وقت لا ينفع الندم، والمثل العربى يقول: «لسان العاقل وراء قلبه».